الثلاثاء 7 ديسمبر 2021 / 17:08

هل تُجدي حرب فرنسا ضدّ هيمنة اللغة الإنجليزية داخل مؤسسات بروكسل؟

قبل أسابيع قليلة من الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي المقررة في النصف الثاني من 2022، أعلنت باريس عن خطة عمل تمتد على عدّة سنوات بهدف تعزيز التعددية اللغوية في بروكسل، وإعادة الاعتبار للغة موليير، اللغة الرسمية للدولة في 29 بلداً.

بالتأكيد تبقى الفرنسية حاضرة داخل كافة المؤسسات الأوروبية كإحدى لغات العمل الثلاث، إلى جانب الألمانية والإنجليزية، لكنّها فقدت الكثير من تأثيرها منذ التسعينيات، ورحيل البريطانيين عن الاتحاد الأوروبي لا يبدو أنّه سوف يغير من هذا الوضع.

وبينما فرضت اللغة الإنجليزية نفسها على كافة مؤسسات بروكسل، شفهيًا وكتابيًا، يواصل الرئيس إيمانويل ماكرون، كالعديد من سابقيه في قصر الإليزيه، الكفاح من أجل الحفاظ على لغة موليير وتعزيز وجودها. وكان ماكرون الذي انتخب رئيساً في 2017، رفع شعار "الدفاع عن الفرنسية في إطار التعددية اللغوية" أي دون فرضها مقابل الإنجليزية واللغات واللهجات الأخرى المستخدمة، وهو يرى في ذلك الوسيلة الوحيدة لتأكيد الزيادة المتوقعة في عدد مستخدمي اللغة الفرنسية من نحو 275 مليوناً اليوم إلى حوالي 700 مليون في 2050، لكنّ ذلك لم يكن في مستوى توقعات الفرنسيين الذين يُعرف عنهم تمسّكهم الشديد بلغتهم، باعتبار أنها "لغة الثقافة" في العالم، حيث يُعترف بها كلغة دولية في فن الطبخ، والأزياء، والمسرح، والأدب، والرقص، والفنون البصرية، وحتى الرياضة.

لهذا الغرض، فإنّ هجوماً دبلوماسياً وثقافياً جديداً تستعد الحكومة الفرنسية لشنّه إثر إطلاق تقرير "التنوع اللغوي واللغة الفرنسية في أوروبا" مؤخراً، حيث يكشف مؤلفو التقرير، الذين عملوا تحت إشراف كريستيان ليكيسن، أستاذ السياسة في معهد العلوم السياسية بباريس، أنّ "مكانة اللغة الإنجليزية داخل المؤسسات الأوروبية ما زالت هي المهيمنة بالفعل".. وتسمح بعض الأرقام بقياس مدى اختفاء 23 لغة رسمية أخرى في الاتحاد الأوروبي تقريبًا من المشهد المجتمعي الرسمي، مُشيرين إلى أنّ الفرنسية، ورغم مقاومتها، إلا أنّها ليست استثناءً.

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يُنقذ اللغة الفرنسية
من الناحية النظرية، وحول طاولة المجلس الأوروبي، فإنّه من بين ثمانية وعشرين رئيس دولة وحكومة يجتمعون عادة، يتحدث ثلاثة منهم لغة موليير، هم الرئيس الفرنسي، ورئيس الوزراء البلجيكي ونظيره في لوكسمبورغ، وذلك مقابل تحدّث كل من رئيسي وزراء مالطا وأيرلندا فقط لغة شكسبير، بعد مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي.
إذاً الفرنسية هي الأكثر تمثيلاً سياسياً من بين الأربع وعشرين لغة رسمية، لكنّ الواقع يقول خلاف ذلك، وما زالت الإنجليزية هي المُهيمنة بعد مُضي نحو عام على شغور المقاعد البريطانية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
وفي الحقيقة، وبالعودة بالزمن قليلاً إلى الوراء، فقد كان الآباء المؤسسون لأوروبا جميعهم من المتحدثين بالألمانية.. تفاوضوا باللغة الألمانية ووقعوا بمفرداتها، ولكن لأسباب سياسية، لم يكن من المعقول أن تكون لهذه اللغة اليد العليا، هذا ما تشرحه الباحثة والأكاديمية ستيفاني بوزمانيوك، التي تستعد لنشر مذكرة حول التعددية اللغوية داخل مؤسسة روبرت شومان.

فيكتور هوغو، وخيبة أمل كبيرة
في عام 2019، يُشير التقرير إلى أن "3.7٪ من الوثائق المرسلة للترجمة كانت الفرنسية هي اللغة المصدر لها، مقابل 85.5٪ للغة الإنجليزية" لكن قبل عشرين عامًا، كان 34٪ منها مكتوبًا باللغة الفرنسية قبل ترجمتها، ومقابل 40٪ في عام 1997. أما في مجلس الاتحاد الأوروبي (الذي يمثل الدول الأعضاء)، فقد كان الوضع أسوأ، ففي عام 2018، كانت 95٪ من المراسلات تتم باللغة الإنجليزية أولاً، و 2٪ منها فقط باللغة الفرنسية، ومع بعض المقاومة في 2019 فقد تمّت كتابة 11.7٪ من الوثائق بلغة موليير.

وحدها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ومقرّها في ستراسبورغ، تُعدّ استثناءً، إذ لا توجد سوى لغة واحدة للتداول في الجلسات، وهي الفرنسية، وذلك على الرغم من طرح البعض لإمكانية استخدام اللغة الإنجليزية أيضاً، نتيجة صعوبة استقطاب قضاة ومتعاونين من المُتقنين للغة الفرنسية فقط.

يُذكر أنّه في عام 2019، وجّه 100 فنان ومدرس وعالم من 25 دولة تنتمي لمنظمة الفرانكفونية، نداءً للرئيس إيمانويل ماكرون داعين إيّاه لحماية الفرنسية من "الاستعمار الأنجلو أمريكي"، مُحذّرين من أنّ اللغة الفرنسية في وضع سيء جداً، وهي تختنق، ويشهد استخدامها تراجعاً بسبب اللغة الإنجليزية التي تُصبح مألوفة أكثر فأكثر. وطلب الموقعون من فرنسا، وهي أكبر مساهم مالي في المنظمة الدولية للفرنكفونية، أن تقتدي بأثر روح المقاومة ضدّ النازية في الحرب العالمية الثانية، وبحماية "اللغة الفرنسية ومن خلالها لغات وثقافات العالم جميعها"، مما أسموه "الاستعمار الأنجلو أمريكي".

بالمقابل، وقبل نحو عامين، كانت الحكومة الفرنسية قد فاجأت شعبها، بإعلانها عن استراتيجية جديدة لتطوير مستوى اللغة الإنجليزية لدى طلبة البلاد "استعداداً لغزو العالم اقتصادياً" وهم المعروف عنهم ضعف قدراتهم بهذه اللغة. وكان حينها رئيس الوزراء السابق إدوار فيليب قد اعترف بأنّ الإنجليزية اليوم هي اللغة المُهيمنة للتفاهم بين الشعوب، موضحاً ومؤكداً للفرنسيين "عليكم أن تتحدثوا بالإنجليزية إذا أردتم أن تتصرفوا وتتعاملوا في ظل العولمة".

وكانت ضجّة واسعة قامت في فرنسا بسبب استعمال بلديّة العاصمة للغة الإنجليزية في الشعار الرسمي للحملة الدعائيّة لاستضافة باريس للألعاب الأولمبية في العام 2024، واعتبرت حينها كافة الأوساط الأكاديمية والأدبية والإعلامية الفرنسية هذا الاختيار أنّه "إساءة للفرانكفونية"، بل و"خيانة لفرنسا وإهانة لسيادتها" من وجهة نظرهم، وذلك على الرغم من أنّ اللجنة المكلفة بالإعداد لأولمبياد باريس قد أعدّت عن نفس الشعار باللغة الفرنسية أيضاً، ولكن تمّ انتقادها لأنها أعطت حينها الأولوية للغة الإنجليزيّة، فظهرت بذلك لغة موليير، كما وأنها لغة ثانويّة في عقر دارها.