الثلاثاء 15 مارس 2022 / 16:06

"السرايا الصفرا"... قراءة متعقلة في عالم ساده الجنون

أربعون عاما قضاها الطبيب المصري محمد كامل الخولي بين جنبات مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية، وبعد تقاعده نشر مقتطفات من يومياته مع المرضى في سلسلة مقالات ربما لم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام والتحليل في حينها، إلى أن جاء الباحث والكاتب محمد الشماع ليكمل الصورة في كتاب "السرايا الصفرا".

الكتاب صادر عن دار المصري للنشر والتوزيع في 216 صفحة من القطع المتوسط مقسمة إلى ثلاثة فصول مع ملحق صور من 25 صفحة، وهو الكتاب الرابع لمؤلفه الذي يعمل في مؤسسة أخبار اليوم الصحافية ويكتب في عدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية إضافة إلى إسهامه في صنع الأفلام الوثائقية وكتابة السيناريو.

يحمل الفصل الأول من الكتاب عنوان "المذكرات" وهو إعادة نشر لسلسلة المقالات التي كتبها الدكتور الخولي في مجلة المصور من يناير كانون الثاني إلى أبريل (نيسان) 1954 تحت عنوان "40 عاماً في حراسة أصحاب العقول" والتي تتسم بالغرابة والطرافة وصيغت بلغة سلسة بعيداً عن أي تعقيدات علمية أو مصطلحات غامضة حتى يكاد القارئ يظن أن كاتب اليوميات ليس طبيبا بالأساس.

واليوميات محررة بشكل مدهش يجعلها تبدو مثل مغامرات القط والفأر الشهيرين في مسلسلات الكارتون، والقط هنا هو الطبيب النفسي الذي كان يصبر ويراوغ ويهاجم بعض الذن ادعوا الجنون حتى يكشفهم، لكنه يتحول أحياناً إلى ضحية للمقالب التي يدبرها له المرضى فتوقعه في مواقف غاية في الإحراج.

ومن أكثر الحكايات إثارة في المقالات هي حكايات عن أفراد من العائلة العلوية التي حكمت مصر قرناً ونصف من بينهم الملك فاروق الذي كون الطبيب النفسي المخضرم رأيا عن حالته النفسية بعد لقاء شخصي بينهما في الإسكندرية في 1938.

ورغم تركيز اليوميات على نزلاء مستشفى الأمراض النفسية وحكاياتهم وكواليس المستشفى، فهي لا تخلو من الذاتية حيث تحدث الخولي في جزء منها عن حياته الشخصية، ونشأته، وكيفية التحاقه بكلية الطب، ثم سفره للدراسة بالخارج، وعودته وانضمامه للعمل بالمستشفى في 1916 حتى أصبح مديره وتقاعده في أواخر 1953 وهي إضافة مهمة لقلة ما نُشر عنه في الإعلام.

حكايات على الهامش
والفصل الثاني من الكتاب بعنوان "حكايات تاريخية على الهامش" ويتضمن جهداً بحثياً واستقصائياً كبيراً عمل المؤلف فيه على الربط بين حكايات الخولي والسياق التاريخي والاجتماعي لهذه الحكايات التي ارتبط بعضها بجرائم شهيرة مثل اغتيال وزير المالية الأسبق أمين عثمان في 1946، ومحاولة اغتيال الزعيم الوطني سعد زغلول عام 1924 وتم عرض مرتكبيها على الطب النفسي.

كما تضمن الفصل معلومات موثقة عن نشأة وتطور مستشفيات الأمراض النفسية في مصر وتحديداً مستشفى العباسية الذي درج عامة الناس على تسميته "السرايا الصفرا" اشتقاقا من لون المبنى الذي كان في الأساس أحد قصور العائلة العلوية ومطليا بالأحمر قبل تحويله في 1883 إلى مستشفى وطلائه بالأصفر.

ومن مواقف مختلفة جمعت الدكتور الخولي بأطباء إنجليز كانوا يهيمنون على إدارة المنشآت الطبية في مصر لفترة طويلة، ينطلق مؤلف الكتاب للتحدث بشكل أوسع عن عمل الأطباء الأجانب في مصر وأثرهم مع إدراج نماذج مشرقة لأطباء مصريين استطاعوا التفوق على أقرانهم الأجانب مهنياً وأخلاقياً.


والفصل الثالث جاء بعنوان "نحو ثقافة نفسية عامة" وتضمن أيضاً جهداً بحثياً كبيراً من المؤلف محمد الشماع الذي قرأ الكثير من كتب الطب النفسي استعداداً لإصدار هذا الكتاب واستعان بالكثير من المقالات العلمية والدوريات الطبية لتناول المصطلحات الطبية القليلة التي ذكرها الخولي في مقالاته مثل البارانويا، والسيكوباتية، والشيزوفرينيا.

كما يتناول بشيء من الاستطراد الكتاب الذي أصدره الخولي بعنوان "الطب النفسي الشرعي" الذي يعتبراً مرجعاً عربياً نادراً في الربط بين الطب النفسي والقضاء حين يكون التقرير الطبي للحالة النفسية والعقلية للمتهم الفيصل في تحديد مصيره .

كتاب "السرايا الصفرا" وإن كان في ظاهره إعادة اكتشاف لأحد الكنوز الصحافية المطمورة، فإنه يمثل في جوهره قراءة متأنية لفترة غير قصيرة من تاريخ الطب النفسي في مصر ويطرح تفسيرات وتأويلات جديرة بالدراسة عن ارتباط الأمراض النفسية بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، خاصة في أوقات الحروب والأزمات.