الخميس 23 يونيو 2022 / 07:40

"لا تمت قبل أن تحب" لمحمد الفخراني.. رواية في مديح الخطأ الإنساني

في إحدى جولاته، يقابل "تشوكا"، بطل رواية الروائي المصري محمد الفخراني الجديدة "لا تمت قبل أن تحب" والصادرة أخيراً عن دار العين بالقاهرة، كاتباً متجولاً، يتجول في العالم على قدميه، ويتنقل بين الزمان والمكان، ويتكلم لغة كل مكان ينتقل إليه، وهي لغات لم يكن يتكلم بها من قبل.

من قرأ الفخراني يعرف أن هذا الكاتب المتجول هو بطل روايته السابقة "مزاج حر"، ومن قرأه جيداً، يعرف أن هذا التجول في الزمان والمكان هو ديدنه في روايتيه الأخريتين "أراك في الجنة"، و"ألف جناح للعالم"، ومن يعرف الفخراني جيداً، يعرف أنه هو هذا الكاتب الحر المتجول، وأن هذه هي أفكاره عن الكتابة والإنسان والعالم.

لكن، هل يعني هذا أن نصه الجديد "شبيه" بأعماله السابقة، أو على أقل تقدير "مُكمّل" لها؟ الإجابة الواضحة من السطور الأولى للنص أن هذا العمل بعيد عن كل ما كتب من قبل، حتى لو كان يتماس معه عن قصد، لأننا إذا كنا في الروايات السابق نسير مع هذا الكاتب المتجول، فإننا هنا نتجول في عقله، في روايته التي يريد أن يكتبها، هنا نتعرف عليه ككاتب، لا ككاتب متجول.

يقول الكاتب المتجول لـ "تشوكا" حين يلتقيه أنه يفكر في كتابة رواية يكون مدخلها رومانسيا، فيها خط لقصة رومانسية بشرط ألا يكونا حبيباً وحبيبة بالمعنى الشائع، يفكر لو تبدأ روايته بشاب صغير ينقذ من الغرق بنتاً في مثل عمره، ولا يتعرف إلى ملامحها ولا تتعرف إلى ملامحه، وينتهي الموقف بينهما بإخراجها من البحر، وتمر سنوات طويلة ويلتقيان في نهاية الرواية بطريقة ما، ويدور بينهما حوار لطيف، لكن الكاتب المتجول لم يكن متأكداً إن كان سيجعلهما يعرفان بعضهما في الحوار أو لا، أو ممكن يلعب معهما لعبة أخرى.

ما قاله الكاتب المتجول هو فكرة هذه الرواية، وتتكشف معالمها من السطور الأولى، لكنها رغم ذلك تبقى فكرة مثيرة للدهشة والاكتشاف والتفكير مع كل صفحة أو سطر من هذه الرواية الممتعة، لا سيما وأن الفخراني لا يقدم مجرد حكاية، بل يحملها بعشرات الأسئلة عن ماهية الحب والحياة والموت والانتظار والمرض والانتحار وعشرات الأشياء التي يعيد تعريفها للقارئ ويشركه معه في البحث عن تعريفات جديدة لها، يقدم الفخراني حكاية حداثية بامتياز، وقولي حداثية هنا أعني به طريقة السرد واللغة وبناء الشخصيات، وتقنيات الكتابة المستخدمة، والتي تتجدد وتفاجئ قارئها مع كل فصل جديد.

حتى فكرة الرواية التي تبدو بسيطة، يفتح فيها باب اللعب حتى نهايته، فيظل القارئ متحمساً ومحتاراً حتى الصفحة الأخيرة، هل سيلتقي العاشقان ولو مرة، مع تكرار صدف لقائهما في أماكن مختلفة دون أن يعرفا، لكن تظل الاحتمالات قائمة طوال القائمة، ويشد الفخراني قارئه بحبل شفيف من اليقين واللايقين، من التأكد والاحتمال حتى النهاية.

رواية محمد الفخراني هي رواية الاحتمالات، تقول إن الحياة مليئة بالاحتمالات، كل حكاية يمكن أن تنتهي بألف طريقة، وكل طريق يمكن أن يتفرع إلى عشر طرق، وكل صورة نراها ليست بالضرورة تحمل حكاية واحدة، كأن الحياة مسألة حسابية يمكن أن تحل مرة خطأ، لكن هناك أيضاً أكثر من طريقة للحل، كأن هناك مساحة للخطأ الإنساني، ومساحة لقبول هذا الخطأ، فهذه هي طبيعة الحياة، كأن هناك مساحة لأن يلتقي بطلي الرواية صدفة أكثر من مرة دون أن يعرفا، لكنهما سيلتقيان في النهاية.

هذه الاحتمالات، هي السبب في الطريقة الفريدة التي يفاجئنا بها الراوي العليم، الذي سنكتشف أنه ليس "عليماً تماماً"، بل هو مجرد مشاهد مثلنا للحياة ولتصاريف القدر، لا يعرف كل شيء عن أبطاله، ولا عن خططهم في الحياة، ولا عن طريقة تفكيرهم، بل يخمن مثلناً الخطوة التالية لما سيحدث لهم، كأنه يقول لقارئه أن الحياة مليئة بالمفاجآت وعشرات الاحتمالات، وأنا "مجرد" راوِ عليم لا أعرف كل شيء.

هذه الاحتمالات، هي أحد أسرار لغة الرواية الفريدة، خاصة في الفصول الخاصة بحورية أبو البحر وشقيقها تشوكا، فنحن إزاء لغة خاصة، هجين ما بين العامية والفصحى، ورغم إنها متقتشفة وخالية من حروف الجر والوصل، إلا أنها تبدو لغة شديدة الرشاقة والجاذبية، وتليق بشخصياتها، فضلاً عن أنها تحاول المزج ما بين العامية والفصحى، أو ترد بعض كلمات عامية إلى أصولها الفصحى، بل يمكن القول عن بعضها إنها "فصحى سكندرية"، حيث تعيد اكتشاف الفصحى في عامية تلك اللهجة الساحلية، ويتضح ذلك من الاحتمالات التي تطرحها حورية أبو البحر حين تعيد تكرار إحدى الجمل التي تفكر فيها أو تنطقها مرة بالفصحى وأخرى باللهجة السكندرية.

اللغة أحد أسرار هذه الرواية، فهناك لغة السارد، ولغة "الرومانسي الأهبل" بطل الرواية"، ولغة "تشوكا"، ولغة "حورية" ذات الأربعين عاماً لكن لغتها شابة نزقة مرحة كأنها ابنة سبعة عشر عاماً وكأنها توقفت عند اللحظة التي كادت أن تغرق فيها، ولغة أطفال التوحد، ولغة الإشارة التي تتعلمها حورية وتراقبها على المقهى، حتى لغة الإشارة تنقسم إلى قسمين: الإشارة التي يتكلمها الصم والبكم، والإشارة التي يتكلم بها غيرهم، ولغة الموسيقى التي تتحدث بها الجدة راقية، وكلها احتمالات مفتوحة على الحياة والتواصل.

احتمالات الحياة والموت، إحدى الأفكار التي تطرحها الرواية بشدة، نجد هذا في الحوار الذي تخوضه حورية حول الانتحار، ولا يبدو الأمر مجرد دفاع عن الحياة ضد الموت، بل هو يقدم احتمالات الحياة التي قد لا يراها المنتحر، فيما يمكن اعتباره أنشودة في محبة الإنسان والحياة.

ومن اللافت أنه رغم احتفاء الرواية بالحب والحياة في جميع فصولها، إلا أنها لا تخلو من حديث طويل عن الموت في العديد من فصولها: بداية من موت الأم والأب، وطفل التوحد، وأبطال الصور الثلاث التي يتحدث عنها تشوكا ومصوريها، وكأنه حتى تكتمل الحياة، لا بد أن يحضر الموت، وحتى نشعر بالحب لا بد أن نشعر بالفقد أولاً، ومن اللافت أيضاً أن تجارب وطرائق الموت التي تأتي الرواية على ذكرها متعددة من الانتحار إلى موت بسبب الحرب والجوع إلى موت بسبب المرض إلى موت عادي تماماً، بل إن الرواية نفسها تبدأ بحادثة موت لدقيقة واحدة (الغرق)، كما تسميها بطلة الرواية حورية أبوالبحر.

ومن المهم الوقوف هنا عند مفهوم "الغرق"، الذي يفتتح به الكاتب روايته، بل يقدمه في (احتمالين)، الغرق في الحب، والغرق في أي شيء آخر، كأن الحب يساوي أي وكل شيء آخر(سواء كان حب الإنسانية كما يراه تشوكا، أو حب كل شيء في الحياة كما يراه "رومانسي"، أو حب يمكن الوقوع فيه بسهولة كما تبحث عنه حورية أبو البحر التي يحيل اسمها الطريف أيضاً إلى المفهوم ذاته).

لكن لماذا الغرق تحديداً؟ لأن مفهوم "الغرق" في هذه الروايات يحيل على عدة احتمالات، أحدها "الموت"، وهو ما يتجلى في الصورة الشهيرة لغرق الطفل السوري آلان الكردي، وهناك "الرومانسية"، حيث تتحول محاولة الإنقاذ من الغرق في رأي الطبيب إلى مجرد فعل "رومانسي"، وهناك "الوحدة"، كما تقول حورية "يحس الغريق لحظة ما أنه وحيد، أحس بألم في معدتي لما أسمع أن أحدهم غرق، ليس لأني تعرضت للغرق مرة، وإنما لأني أفكر في الغرقة التي عشتها، والإحساس الذي أتمنى ألا يعيشه أحد: الوحدة، يحس الغريق عند لحظة ما أنه وحيد، تخلى العالم عنه، لدرجة أنه يتوقف عن المقاومة ويتملكه برد ثقيل كأن جسمه تحول لصخرة، برد الوحدة غير أي برد، وحدة الغرق غير أي وحدة". كما أننا يمكن أن نوسع مفهوم الغرق إذا ربطناه بالوحدة، إذا تحدثنا عن "الانتحار" باعتباره وما قبله من انغلاق على الذات"غرقاً" بشكل ما في حالة نفسية سيئة، كما أن التوحد ذاته، هو سباحة أيضاً بشكل ما في عالم ذاتي خاص.

ومن المهم الإشارة أيضاً إلى أن أبطال الرواية الثلاثة ارتبطوا بتجارب غرق بشكل ما "حورية التي غرقت، تشوكا الذي يحكي عن صورة الطفل السوري، الطبيب الرومانسي الذي أنقذ حورية، وكاد يغرق مرتين في طفولته وشرب خلالهما من ماء الترعة حتى شبع".

وإذا كان الفخراني يقدم رواية عن الاحتمالات التي تمنحها لنا الحياة، فهو يحتفي أيضاً بالخطأ الإنساني، الذي يرى أن العالم لا يساوي شيئاً بدونه، بل ربما يمنحه مشروعيته، هذا الخطأ لا يمنع الإنسان من الحياة بل ربما يكون مبرراً له للغوص أكثر في هذه الحياة، حتى لو لم يكن الخطأ منه، فالجدة الكفيفة، والفاقدة لأحد حواسها تستطيع أن تتواصل باللمس وأن ترى بالموسيقى، والطفل المتوحد يستطيع أن يتواصل بالعين، والبكم يستطيعون أن يتواصلوا بالإشارة.

يهتم الفخراني في روايته بالصورة، ويتحدث عن صور فوتوغرافية شهيرة استطاعت أن تهز العالم وقت التقاطها. لكن لماذا الصورة؟ لأن الرواية بالأساس عن الصورة، لأن الكاتب يستخدمها كتقنية كتابية لسرد حكايته، ولأن الصورة تحمل في أحد أوجهها مفهوم الموت، فالصور الثلاث التي اختار أن يتحدث عنها (صورة آلان الكردي، والطفلة الجائعة والنسر، وفتاة النابالم) جميعها تحمل احتمالات الموت، ولأن الصورة ـ أية صورة ـ تبدو كأنها تحبس الأرواح داخلها حتى لو كانت تحتفي بالحياة، وفي الرواية ماتت الأم بعد التقاط صور، ومات الأب وهو ينظر إلى صورة.

وحتى لو تجاوزها الصورة بشكلها الفوتوغرافي، فإن الرواية تبدو أشبه بألبوم يحتوي على صور مختلفة (كل فصل بمثابة صورة)، بل إن المشهد الرئيسي في الرواية، مشهد الغرق، يبدو كصورة قديمة تم تثبيتها، والبحث في احتمالاتها المختلفة، هذا الولع بالصور نجده في وصف الكاتب لصوت تشوكا بأنه "بني" مثل لون الصور القديمة، نجده في مهنة الأب واسم الأخ "تشوكا"، نجده في استوديو التصوير الذي تفتحه حورية كل خميس، نجده في حورية التي تحب الصور المطبوعة حتى أنها تبدو للقارئ بجمالها العادي وطريقتها في الحكي وحبها للروايات والأفلام وتصديقها لهم كصورة تقليدية مطبوعة على كتاب من عصر سابق، نجده في الصورة الثابتة التي تتكرر في فصول الطبيب الطبيب الرومانسي "طفلة تحضر لها إفطارها وتسرح لها شعرها كل صباح"، والتي يمكن تخيلها كصورة فوتوغرافية مبهجة، نجده في صورة الكاتب المتجول التي تنعكس على تشوكا المصور المتجول وعلى الرومانسي الذي كان في طفولته بائع توت متجول ووالده بائع قماش متجول، وجده بائع أم الخلول متجول، نجده في وصف الروائي للصورة بأنها "أكثر شيء ثابت متكلم"، وهو ما يفعله بالضبط في نصه حيث يقدم صوراً ثابتة متحركة، لا سيما حين يتكلم عن الأشياء المجردة كالضحك والموسيقى والغناء.

رواية محمد الفخراني الجديدة "لا تمت قبل أن تحب"، ليست رواية "رومانسية" كما قد يعتقد البعض من اسمها، رغم أنها عن الحب، ليست رواية "تقليدية"، كما قد يظن البعض إذا سمع حكايتها. نحن أمام رواية "محبة للحياة"، وفي "محبة الحياة" وكل تفاصيلها، نحن أمام رواية عن الفن والموسيقى والكتابة، واحتمالات الحياة رغم الموت المحيط بكل شيء، هذه رواية عن النجاة من العالم ومن الغرق في أي شيء آخر غير الحب.

يقدم الفخراني رواية غير تقليدية، مفتوحة على التجريب، غير ملتزمة بالأشكال التقليدية في الكتابة والسرد، يكشف حكايته بالكامل منذ السطور الأولى، ورغم ذلك تظل الرواية مشدودة بخيوط المتعة والتشويق وهو يغزل حكايته على مهل، لا يقدم زمناً محدداً ـ مع أنه يمكن تخمينه من تاريخ الصور الفوتوغرافية ـ لا نصادف هاتفاً محمولاً ولا إنترنتاً، بل تسبح الحكاية بين الصور الفوتوغرافية والرسائل الورقية والدراجات التي تملأ شوارع الإسكندرية، وكأنه يخلق لنصه زمنه وإيقاعه الخاص كأنه يقدمه بالطريقة التي يحب أن يرى بها العالم، فيستدعي فيها تفاصيل عالمه الروائي من موسيقى وألوان وبحر وألعاب كتابية، ويقدمها في رواية عن التفاصيل العابرة، التي تعيد للعالم ثقته في نفسه، وتعيد الثقة للقارئ في وجود كتابة حقيقية مختلفة تستحق الاحتفاء.