مغاربة وجزائريون على جانب الحدود المغلقة في معبر زوج أبغال (أرشيف)
مغاربة وجزائريون على جانب الحدود المغلقة في معبر زوج أبغال (أرشيف)
الخميس 30 يونيو 2022 / 10:44

المغرب والجزائر...وتكلفة القطيعة

د. إدريس لكريني - الخليج

على امتداد أكثر من عشر سنوات متتالية، سابقاً، لم تتوقف زياراتي للجزائر، في إطار المشاركة في ندوات وملتقيات علمية قادتني إلى العاصمة الجزائر، ووهران، وتيزي ووزو، وورقلة، والمسيلة، والشلف، وغيرها من المدن، لمست خلالها حجم الحب الذي يكنه الشعب الجزائري لشقيقه المغربي، كما أتاحت لي فرص التعرف إلى عدد من الزملاء والأصدقاء الذين يؤمنون بالمشترك بين الشعبين، وبحتمية المغرب الكبير.

جمعتني بعدد من الزملاء الباحثين الجزائريين الكثير من المؤتمرات والمناسبات العلمية في المغرب وتونس وليبيا والجزائر وموريتانيا، تناولنا فيها عدداً من المواضيع التي تتعلق بالمنطقة المغاربية في أبعادها الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية، وطالما تم التطرق خلالها إلى كلفة "اللامغرب"، فيما جمعتنا أيضاً منابر إعلامية وثقافية عبرنا من خلالها عن حلمنا المشروع بفضاء مغاربي مفتوح، قوامه التواصل والإخاء والسلام، وأذكر في هذا الصدد مجلة "المغرب الموحد" التي كانت تصدر من تونس حاملة بين دفتيها، مقالات وحوارات لباحثين مغاربيين، هاجسهم لمّ الشمل ونبذ الخلافات.

لا تخفى أهمية تعزيز العلاقات بين المغرب والجزائر، وانعكاساتها الإيجابية، في ما يتعلق بالدفع بعجلة الاتحاد المغاربي، بالنظر إلى وزنهما داخل هذا الفضاء الذي لم يكتب له بعد الاستفادة من إمكاناته البشرية والطبيعية وموقعه الاستراتيجي.

وأزعم أنه لا يمكن لأي مواطن مغاربي، إلا أن يرفض وينبذ خيار القطيعة بين شعبين جارين تربطهما علاقات حضارية واجتماعية وثقافية وتاريخية قوية ومتجذرة، ومصير واحد. لقد عشنا، أنا وجيلي، القطيعة أطفالاً، وكبر فينا الأمل مع إبرام اتفاقية مراكش لعام 1989 المؤسسة للاتحاد المغاربي، قبل أن يعم الإحباط من جديد مع الإصرار على إغلاق الحدود، وعلى نهج القطيعة في زمن العولمة، وعلى تحويل الكثير من مقومات المشترك إلى خلافات.

ويساهم بعض رواد شبكات التواصل الاجتماعي في تعميق هذه الخلافات، ضمن مفارقة غريبة يتم خلالها العمل على تحويل المقومات الثقافية والحضارية والاجتماعية والفنية المشتركة بين البلدين إلى عوامل فرقة وتناحر، بدل استثمارها في ترسيخ التضامن والتكتل.

لقد استطاعت الكثير من الدول في أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية الاستفادة من خلافاتها وصراعاتها وحروبها التاريخية، لتحولها إلى فرص ومحطات لتحصين المستقبل، بل والمساهمة في نشر مناخ من التسامح والتواصل بين الشعوب، انخرطت فيه مجموعة من الفعاليات المدنية والنخب المثقفة، بما أعطى لمبادراتها وتكتلاتها عمقاً مجتمعياً قوياً، استطاعت أن تحقق معه الكثير من المكتسبات، التي جعلتها تتبوأ مكانة وازنة بين الأمم، في الوقت الذي ظلّ الهدر هو سيد الموقف في المنطقة المغاربية؛ التي أضحت ومع كل أسف، في مقدمة المناطق الأكثر ضعفاً على مستوى التعاون الاقتصادي والتجاري، بفعل إهمال المشترك الحضاري والجغرافي والثقافي، واعتماد قرارات تنمّ عن سوء تقدير، تكرس الإحباط والانتظارية القاتلة في عالم متسارع.

إن خيار القطيعة في زمن المخاطر والأزمات التي يمر بها العالم في الوقت الراهن، وما يترتب عنها من إشكالات اقتصادية وغذائية وأمنية، هو خيارغير مفيد بكل المقاييس، فالظرفية الدولية الراهنة بتحدياتها المختلفة، تفرض العمل الجماعي وتحصين الذات في إطار تكتلات جماعية، واستثمار كل المقومات المتاحة لكسب رهانات التنمية والاستجابة لانتظارات المواطنين وقضاياهم الحقيقية، وللاستئثار بمكانة في النظام الدولي الذي بدأت ملامحه تتبدّل بشكل ملحوظ.

ورغم هذه الأجواء المأزومة، فمع كل مناسبة رياضية أو فنية أو ثقافية، تتأكد متانة الروابط التي تجمع بين الشعبين المغربي والجزائري، والتي لم يكتب لها بعد أن تأخذ فرصة لتفعيلها رسمياً عبر تعزيز التواصل والتفاعل الإيجابي، ففي كثير من المناسبات الرياضية تختلط المشاعر بين الشعبين احتفاء بفوز هذا الفريق أو ذاك، فيما يرتفع شعار "خاوة خاوة" إخوة إخوة، بما يعكس تطلعات الشعبين نحو غد مشرق، تذوب فيه كل الأحقاد والصراعات الوهمية والمصطنعة.

لا تخفى الأهمية التي تنطوي عليها الرياضة في هذا الخصوص، من حيث ترسيخ قيم التواصل والتعايش والتسامح والاختلاف واللاعنف، علاوة على أدوارها في تلطيف الأجواء السياسية المشحونة والتفريغ الإيجابي للطاقات، وإصلاح وترميم المشاكل والصراعات التي تخلفها السّياسات المرتجلة على الصعيدين الداخلي والدولي، وهو ما تأكد في كثير من التظاهرات الرياضية الدولية التي شكلت محطّات لنبذ الأحقاد ولبعث رسائل سلام ومحبة، كثيراً ما هيأت الأجواء لاتخاذ قرارات متقدمة.

إن الاستقبال الشعبي الذي حظي به الوفد الرياضي المغربي بالجزائر، على إثر مشاركته في ألعاب البحر الأبيض المتوسط بوهران، يؤكد أن قلوب ومشاعر الشعبين الشقيقين لا تعترف بقرارات القطيعة الفوقية. ولذلك، فالإصرار على هذه القطيعة تحت أي ذريعة، خيار يعاكس إرادة الشعوب ومصالحها.

نتمنى استحضار العقل والحوار، الكفيلين بطي كل الخلافات المتراكمة، حتى لا نورث الأحقاد والضغائن المصطنعة لأبنائنا، وحتى لا نجازف بمستقبلهم، في عالم مليء بالمخاطر العابرة للحدود التي تفرض حتماً التواصل والتكتل والتعاون.

ويظل كسب هذا الرهان، مشروطاً بحضور عدد من الفاعلين، ذلك أنه على كل القوى الحية داخل البلدين، من نخب مثقفة وفكرية وإعلامية ومدنية أن تتجاوز موقف المتفرج، وتتحمل مسؤولياتها التاريخية لتنخرط بشكل بناء من أجل ترجمة الرغبة الراسخة لشعوب المنطقة في فضاء قوامه الاستقرار والتنمية والديمقراطية، والدفع باتجاه تلطيف الأجواء، والترويج للمشترك وللإمكانات المتاحة، ولحجم الهدر الذي يصيب المنطقة وشعوبها نتيجة لقرارات مرتجلة و"لا شعبية".