المسجد النبوي الشريف (أرشيف)
المسجد النبوي الشريف (أرشيف)
السبت 30 يوليو 2022 / 18:33

الهجرة النبوية.. والقيم الحضارية

لا غرو أن نهضتنا الإسلامية والعربية بدأت من الوحي، ومنذ الهجرة الأولى، بل هي المنبع الذي ارتوت منه الحضارة الإسلامية والعربية، إذ كيف استطاع شعب كان في واد غير ذي زرع وهو واد بمكة أن يلعب في المدينة دوراً نهضويّاً وحضاريّاً، ومجداً قياديّاً ليس له نظير، وأن يُملي إرادته ويفرض تعاليمه في زمن قصير، وكيف أضحى في فترة وجيزة ينافس الحضارات والثقافات المجاورة، من الحضارة اليونانية والفرعونية والبابلية والفارسية.. وغيرها من الحضارات والثقافات.

السؤال الذي يواجه العقلاء: ما حاجة الحضارة إلى الوحي؟ وما القيم الحضارية العليا التي تحققت من الهجرة النبوية؟
ولم تبلغ شعوب أخرى حالاً أفضل ولا منزلة أرقى مما وصلت إليه حضارة القرآن وثقافة الهجرة النبوية المجيدة؛ وذلك لكي تكون صفحات هذه الأمة الفتية ناصعة البياض، لا تمتلك خلفيات ولا حضارات بشرية، بل هو الإسلام وحده الذي يضعها بكل كماله وسموه في صفحات الخلود.

حتماً لم يكن العقل البشري والحنكة أو القيادة هو الذي كان يضيء الطريق أمام النفس البشرية، بل كان الوحي الإلهي، وكانت المعجزة القرآنية التي استطاعت أن تخلق النهضات العلمية والمعرفية في تاريخ العقل البشري، هذه الحقيقة لا يمكن إغفالها أو إقصاؤها.

فقد بزغ فجر الحضارة منذ بواكير هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، واكتمل بناؤها في المدينة، بدأت خيوط صناعة وطن ونهضة حضارة من الهجرة، حتى إذا استقر النبي في المدينة، ظهرت ملامح ومعالم هذه الصناعة وأُطُرها لتكون أمة الدعوة والجماعة والسلام، أمة أقرأ والعلم، أمة تدعو إلى المواطنة الصالحة، وعمارة الأرض، والتسامح والمساواة والعدالة، حيث يُضرب بها المثل حينما كان المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى، جميعها مفاهيم تأسيسية ترفد معنى الحضارة في أعلى مستوياتها وتجلياتها.

هكذا يُصنع التاريخ، وتُمجد الأمة، وتُصنَع مُقدراتها وإمكاناتها ووحدتها بسمو الوحي وكماله، استطاعات حضارة الوحي بناء الإنسان وتنمية فكره، فقد أفضت إلى بناء العقلية القرأنية والشخصية المسلمة، وأظهرت مدى اعتدال منهجه ووسطيته، وتأصيل قدرته على التسامح، ليصبح مستعداً للمرحلة المقبلة لتحقيق أهداف كبرى وتطلعات جديدة، وهي بداية الحضارة والنهضة واليقظة الآتية، ولتكون الأمة شهيدة على الناس بوسطيتها ومعاييرها الحضارية.

وإن التأريخ للهجرة هو تأريخ لبداية جديدة لميلاد الأمة الإسلامية العظيمة، وهو تمهيد للدولة الوطنية، ومنظومة المجتمع الإسلامي المتحضر الذى يراد له أن يقطف من ثمرات هذه الهجرة الاستقرار والسلم الاجتماعي، فضلاً عما يصبو إليه من مقاصد معنوية، كهجران المعاصي والكبائر، التي تُحقق التقوى والتزكية لسائر أعماله في الدنيا.

لا شك أن الهجرة النبوية تحمل رسالة ذات مغزى خاص، فالإسلام منذ الهجرة الأولى بالغ في غرس الحب للوطن، وبالغ في تأكيد هذه القيمة الحضارية، كما حرص الرسول- صلى الله عليه وسلم- على غرس قيم المواطنة الصالحة، وفي مقدمتها التزام الطاعة للقادة وأولي الأمر؛ لما فيه خير للفرد والمجتمع، وإضفاء روح التفاعل الصالح على مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد ارتبط حب الوطن بالقيم الأصيلة للدين، وبأداء الواجب المنوط به؛ ولهذا ساوى المولى سبحانه بين خروج النفس من الأبدان، وخروج الروح من الأوطان بقوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ .. الآية).

ولفهم معنى كلمة المواطنة الصالحة بدقة؛ فإنه يجب تتبُّع محطات مهمة في السيرة النبوية، مثل الهجرة، ودخول الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وإقامته مجتمعاً قائماً على التآخي والسلام بين كل عناصره، سواء من الحقوق والواجبات، والمشاركة المجتمعيَّة، حتى من أصحاب الديانات الأخرى، وهو ما أدى إلى انتشار الإسلام في كلِّ بقاع العالم في سنوات قلائل؛ استناداً على أسس المواطنة الصالحة التي أرساها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن هناك أشكالاً للارتباط بالوطن، منها ما وجدناه من محبة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لمكة، فما لبث أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بُعيد الهجرة، حتى قدم عليه أُصَيل الغفاري، فسأله رسول الله: كيف مكة؟! قال: والله قد عهدتها أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق أذخرها، وأسلمت ثُمامُها، وأمش سلمُها، فقال: حسبك يا أصيل لا تُحزِنَّا، أو قال: "دع القلوب تقرّ".

كما أنه لا يخفى أن ترسيخ الانتماء للأوطان يحكمه العقل؛ ولهذا أعطى رسول الإسلام محمد بن عبد الله نموذجاً رائعاً، وذلك حين هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، بوقوفه على مشارف وطنه "مكة" ينظر إليها آسفاً حزيناً ليقول "والله إنك أحبُّ بلاد الله إلى الله، وإلى نفسي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ".

والمحبة تدفع للتفاني والتضحية للحفاظ على الوطن، كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربَّه فيقول: "اللهم حبِّبْ إلينا المدينة كحبِّنا مكةَ أو أشدَّ"، تلك هي المحبة للوطن، النابعة من كريم الأخلاق وعظيمها.