الجمعة 12 أغسطس 2022 / 19:08

المرأة "فارسة" في كل الميادين.. فهل ترتقي المعاجم إلى حجم دورها؟

يرفض ابن سيده، الذي يوصف بأنه أوحد زمانه وأعلم أهل الأندلس قاطبة بالنّحو واللّغة والأشعار وأحفظهم لذلك، الاعتراف بالنساء الفارسات، وينقل ابن منظور عنه في معجمه "لسان العرب" قوله: "ولم نسمع امرأة فارسة".

يذكر ابن سيده قوله هذا وقد تقدمت عليه تاريخياً نماذج لا تنسى لفارسات عربيات، مثل خولة بنت الأزور، وأسماء بنت يزيد وكنيتها أم سلمة، وأيضاً هناك نسيبة بنت كعب التي أثنى عليها الرسول قائلاً: "ما التفتُّ يَمينًا ولا شمالاً إلاَّ وأنا أراها تقاتل دوني".

وأيضاً لا يمكن أن ننسى المرأة الوحيدة التي خلدها العرب في أطول سيرة شعبية في التاريخ، وتربو مخطوطاتها المحفوظة في مكتبة المتحف البريطاني ومكتبة برلين الحكومية عن 23 ألف صفحة، وهي الأميرة ذات الهمة، والتي تنافس سيرتها سير فرسان أشداء مثل عنترة بن شداد والزير سالم وأبو زيد الهلالي.

رغم ذلك، فإن بعض المعاجم العربية يرى بأن الفروسية مقصورة على الرجال، وأنها تتحقق في المعركة، لكن الثقافة العربية في المجمل ترى بصورة أوسع أن الفروسية منظومة أخلاقية تتجاوز الذكورة والأنوثة، وتعتني بالإنسان وقيمه، بصرف النظر عن عرقه ودينه ولونه، وبذلك إذا كانت الفروسية تفخر بالفارس والفارسة فإنها أيضاً تفخر بمنظومة القيم التي تقوم عليها كالشجاعة والوفاء والمروءة … إلخ، وهذه القيم ينتمي إليها الرجال والنساء على السواء، وقد صدق أبو الطيب عندما قال:

وما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال

وإذا كان العرب لا يربطون الفروسية بطبقة اجتماعية معينة (فهناك عنترة)، ولم يربطوها بجنس (فهناك أم عمارة)، ولم يرفض العقل الجمعي العربي منحها لامرأة، بل خلدوها في سيرة شعبية (مثل الأميرة ذات الهمة)، لماذا إذن قال ابن سيده، وهو من هو في اللغة، إنه لم يسمع بـ "امرأة فارسة"!

يمكن للبعض أن يتهم ابن سيده بـ "الذكورية"، ويمكن أن يرد البعض الأمر إلى أن بعض الكلمات المذكرة في العربية تحتمل التذكير لا التأنيث وهي سمات لغوية تخلو من أية غاية تصنيفية استعلائية، بسبب قاعدة صفات الوظائف التي كانت في بداية ممارستها مختصة بالذكور دون الإناث، وقد يجادل البعض بالقول المأثور إن "عائشة كانت رجلة الرأي".

لكن كل هذا يجب أن يلقي الضوء ـ وهو ما أميل إليه ـ إلى حاجتنا الشديدة، كمتخصصين في اللغة العربية وعلومها ومشتغلين ومهتمين بتطورها، إلى التخلي عن تشددنا، وإعادة النظر في بعض القواعد القديمة، وتطويرها لتواكب العصر.

إن اللغة ـ أية لغة ـ كائن حي يحتاج أن يتعايش مع بيئته، ولا يمكن لها أن تستمر ما لم تتطور، وفي ظني أن أحد أسباب بقاء اللغة العربية طوال هذه القرون، ورغم انقراض لغات كثيرة عاصرتها، هو أنها استطاعت أن تتطور وتواكب كل عصر من العصور التي مرت عليها.

إن هذا الدور المهم والحيوي، ملقى على عاتق المتخصصين في اللغة، وعلى مجامع اللغة العربية التي عليها أن تتخلى عن جمودها وأن تعيد النظر في كل ما من شأنه أن يثري اللغة وينهض بها وينميها ويطورها لتكون متماشية مع العصر.

لقد بدأت دولة الإمارات هذا الدور بالفعل، وقادت ـ كعادتها ـ المبادرة في العالم العربي؛ فبحثاً قدمت "المعجم التاريخي للغة العربية" من أجل النهوض باللغة العربية والتعريب والترجمة العربية، وإيجاد الألفاظ الجديدة المتوائمة والمتماشية مع هذا العصر. وعلى أرض الواقع استطاعت الإمارات في إطار دعوتها لاستئناف الحضارة، أن تجترح كلمات جديدة، مثل إطلاق مسمى "أصحاب الهمم" على ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو المسمى الذي أصبح علامة في جميع البلاد الناطقة بالعربية.

أيضاً تعيد دولة الإمارات المعنى والمغزى والقيمة لكلمة "فارسة"، من خلال عدة مبادرات، فالفارسات أصبحن جزءاً أساسياً من الشرطة الإماراتية، وتحكي فرق الخيالة النسائية إنجازاتهن، فضلاً عن إطلاق العديد من سباقات الخيول المخصصة للنساء، مثل بطولة كأس أكاديمية فاطمة بنت مبارك الدولية لقفز الحواجز، وسباق فاطمة بنت مبارك للقدرة للسيدات بالوثبة، ودورة الألعاب للأندية العربية للسيدات التي تنظمها مؤسسة الشارقة لرياضة المرأة، وهذه السباقات وغيرها تقدم كل عام عشرات الفارسات الإماراتيات، وهو ما عبرت سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك رئيسة الاتحاد النسائي العام رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة الرئيسة الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية، في تصريح لها من قبل، عنه بفخرها "بما وصلت إليه فارسات الإمارات من مكانة رائدة تمثل الارتباط بالماضي العريق والتراث، بفضل عزيمتهن وإصرارهن على النجاح والإنجاز، ليتركن بصمتهن المشرفة، ويحجزن مكانهن على منصات التتويج في مختلف السباقات التي تستضيفها الإمارات، ليستحققن عن جدارة تنظيم سباقات خاصة بالسيدات، تكريماً ودعماً لهن على ممارسة هذه الرياضة النبيلة".

إن كلمة "الفارسة" التي سنّتها الإمارات، وأطلقتها لتكون وسماً في العالم العربي، يمكن لها أن تنطبق على العديد من المجالات، وليس ركوب الخيل فقط، فهناك فارسات في مجال الفضاء والطيران والشرطة والجيش والتكنولوجيا والأعمال، وفي كل مجال أثبتت فيه المرأة ـ للعالم ولعلماء اللغة ـ أنها ليست أقل من الرجل. وهو ما أكده صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، بالثناء على دور المرأة الإماراتية عبر تهنئتها "بما أنجزت ونالت من ثقة، فهي شريك أساسي في إنجازاتنا الوطنية خلال الخمسين عاماً الماضية، وفي كل خطوة طموحة نخطوها خلال العقود المقبلة".

إن ما تفعله الإمارات، وما تحققه الفارسات الإماراتيات، وهو نموذج لما تحققه المرأة "فارسة" في كل مجال يجعلنا نعيد صياغة بيت عنترة بن شداد الشهير:

"هلا سألت الخيل يا ابنة مالك"، إلى" هلا سألتم الخيل عما حققته فارسات العرب؟"، ويبقى السؤال الأهم متى وكيف ترتقي المعاجم العربية إلى هذا المستوى من الفروسية؟