الخميس 25 أغسطس 2022 / 18:07

عبدالله بن زايد وتعزيز رؤية رئيس الدولة في "التربية الأخلاقية"

د. علي بن تميم

لم يكن من قبيل المصادفة أن يربط الشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية والتعاون الدولي رئيس مجلس التعليم والموارد البشرية، بين الثقافة الإماراتية واللغة العربية والقيم الإيجابية. فجميع هذه العناصر لا يقوم أحدها دون الآخر، بل يغذي بعضها بعضاً لتأسيس هوية وطنية قوية متماسكة، وهي - أي هذه الهوية - بيت القصيد في ما ذهب إليه الشيخ عبدالله خلال لقائه مسؤولي دولة الإمارات في المجالات التعليمية والثقافية والتربوية وتوجيهه "بتكثيف الجهود لتعزيز الهوية الوطنية والثقافة الإماراتية والقيم الإيجابية واللغة العربية لدى الطلبة، وضمان تكاملها مع المناهج والبرامج التعليمية وطرق التدريس والأنشطة والفعاليات والمبادرات التي تقوم بها المؤسسات"، ذلك أن "الهوية الوطنية والثقافة الإماراتية واللغة العربية والحفاظ عليها وترويجها من أهم أولويات القيادة في دولة الإمارات".

يصدر الشيخ عبدالله بن زايد توجيهه هذا عن وعي عميق بأهمية التربية والتعليم والثقافة، فليس خافياً على أحد الدور المحوري لسموه في جميع هذه الحقول الحيوية، وهو دور يرتقي على نحو فريد بالمجال السياسي إلى مستوى المسؤولية المجتمعية والخدمة العامة والانخراط الجاد في عملية بناء الأجيال وحمايتها ودعمها. وقد استطاع سموه على امتداد مسيرته الحافلة أن يحول هذه الانشغالات إلى مشاريع وبادرات خلقت وتخلق حركية استثنائية في المشهد الإماراتي والعربي.

التربية الأخلاقية
كما يصدر سموه هذا التوجيه المهم عن إدراك متبصر لرؤية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، تلك الرؤية التي لا تميز بين النهضة الاقتصادية والتكنولوجية والعمرانية، والنهضة على مستوى الوعي الفردي والمجتمعي في الإمارات. ومن هنا كان الطلبة والشباب في قلب جميع السياسات والاستراتيجيات التي قادها الشيخ محمد بن زايد ترسيخاً لمبدأ تكامل أركان التنمية على نحو لا يفضل ركناً على آخر ولا يقدم أولوية على أخرى، بل يمضي بها جميعاً على نحو متوازن متواز. ولا يفوتنا في هذا الإطار إشارة رئيس الدولة عام 2016، عند إطلاق منهج التربية الأخلاقية إلى أن "التحديات الراهنة والمستقبلية والطفرات التقنية المتوالية، تفرض علينا المسارعة والمبادرة إلى مضاعفة الجهود لتطوير منظومة التعليم، وتعزيز مهارات وقدرات أبنائنا العلمية والمعرفية ببرامج ومناهج عصرية تلبي توجهاتنا المستقبلية، مصحوبة بقاعدة صلبة من القيم الأخلاقية والآداب الحميدة".

وأقتبس هنا كلام سموه كاملاً في تلك اللحظة المفصلية: "أبناؤنا يعيشون ويواجهون تحديات صعبة، وهم أمانة في أعناقنا، ومسؤولية إعدادهم وتحصينهم تقع علينا جميعاً، ولا يجوز أن ننتظر ونتفرج، بل علينا أن نسابق الضوء بدلاً من الريح لإعداد أجيالنا لمزيد من الإنجاز والتقدم، لأن التاريخ سيحكم علينا.. ماذا قدمنا لبلدنا وأبنائنا وأهلنا وأجيالنا".

يتبين لنا إذن أن توجيه الشيخ عبدالله بن زايد الأخير، يستكمل سلسلة متواصلة من الجهود الواعية لتحقيق استراتيجية رئيس الدولة التنموية بوصفها البوصلة الواضحة التي تقود نحو المستقبل.

اللغة العربية
ركز الشيخ عبد الله بن زايد في توجيهه على أهمية اللغة العربية وعاء حاضناً للموروث الثقافي ومكوناً وطنياً لا غنى عنه. واللغة العربية هنا، ليست بطبيعة الحال لغة ميتة، ولا مهجورة، بل هي مكون رئيسي من مكونات الحضارة العربية، بما تستبطنه من ثقافة وإبداع وأدب وفلسفة وعلم، وهي لغة تتطور مع العصر ومن خلال التفاعل الخلاق مع اللغات والثقافات الأخرى. وهذا ما جعل اللغة جزءاً أساسياً من الاستراتيجية الثقافية لدولة الإمارات، حيث أطلقت وتطلق المبادرات للارتقاء باللغة العربية وتكوين مرجعية عالمية لها وتثبيت حضورها.

وقديماً قال أبو الطيب:

لا بِقَومي شَرُفتُ بَل شَرُفوا بي
وَبِنَفسي فَخَرتُ لا بِجُدودي
وَبِهِم فَخرُ كُلِّ مَن نَطَقَ الضا
دَ وَعَوذُ الجاني وَعَوثُ الطَريد

وإذ يضع شاعر العرب لغة الضاد في قلب المنظومة القيمية الجمعية التي تصنع المجد وتنهض بالفرد، انطلاقاً مما يصنعه وليس مما يرثه، فإنه لا يقلل من شأن الموروث، بل يقول إن صنيع الحاضر هو ما يعلي من الموروث ويمنحه أصالته وحيويته، وهذا بالتحديد موقع اللغة في رؤية المتنبي، مرآة للتقدم الحضاري والتفوق المعرفي والإنساني. فالحفاظ على هوية اللغة وأصالتها، لا يعني أن نقف نحن كحراس كسالى على بابها دون أن نقدم لها شيئاً، لتواكب عصرها وتؤثر وتتأثر به.

الثقافة
وثاني المحاور التي ركز عليها الشيخ عبد الله بن زايد في حديثه عن الهوية الوطنية هو الثقافة الإماراتية، تلك التي تعمل على تعزيز قيم الولاء والانتماء، وتربط الفرد بجذوره وموروثه الفكري والمجتمعي، وتخلق مجتمعاً متلاحماً محافظاً على تراثه، وهذه الرؤية متجذرة في ثقافة دولة الإمارات، وقد حرص الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه على ترسيخها والوفاء لها بالتمسك بالعادات والتقاليد التي نشأ عليها، والحفاظ على تراث دولة الإمارات المادي والمعنوي وثقافتها العريقة، وقد تجلى هذا في العديد من المؤسسات الثقافية الإماراتية التي تسعى للحفاظ على التراث واستعادته وربط الأجيال الجديدة به. كما أكد الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة في كلمته التي وجهها الشهر الماضي إلى المواطنين والمقيمين هذا المعنى بقوله: "سيبقى تاريخنا وهويتنا وموروثنا الثقافي جزءاً أساسياً من خططنا من أجل المستقبل، وسيكون التفاف الشعب حول قيادته مصدر قوتنا وعزة دولة الإمارات".

الهوية الوطنية
أما ثالث المحاور فهو "الهوية الوطنية"، وهي تُعرّف بوصفها "نظاماً من القيم الاجتماعية والأخلاقية المرتبطة بأسلوب حياة الناس في الماضي، والحاضر، والمستقبل، ويقوم هذا النظام على جوهر وجود الناس وبقائهم في مواجهة تحديات التشتت والتفكك، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق تعزيز المفاهيم الأساسية للشعور بالانتماء مثل المواطنة". وقد التفتت الإمارات مبكراً إلى أهمية هذا الأمر، حيث خصصت عام 2008 عاماً للهوية الوطنية، حفاظاً للوطن على هويته، وللمواطن على خصوصيته الثقافية وللمجتمع على تماسكه، وفي عام 2009 أطلقت مبادرة التلاحم الوطني، وفي عام 2010 تم تشكيل اللجنة الوزارية العليا لتنفيذ مبادرة تعزيز التلاحم الوطني والمجتمعي، وتوالت بعد ذلك المبادرات التي تدعم الاتجاه نفسه وتقويه.

القيم الإيجابية
أما رابع المحاور التي أشار إليها الشيخ عبد الله بن زايد فهو تعزيز القيم الإيجابية، والاهتمام بهذا المحور ـ لا سيما في الأسرة والمدرسة والعمل ـ من شأنه أن يزيد من التعهد والالتزام بالقيم والسلوكيات، والعمل في ظل مفهومي الوعي المجتمعي والمواطنة الإيجابية، وهو ما يساهم في توجيه الطاقات نحو البناء والتنمية.

إن تأكيد الشيخ عبد الله بن زايد على تعزيز الهوية في المراحل التأسيسية للتعليم لهو إدراك لخطورة المتغيرات المجتمعية التي يشهدها العالم كله، ومعرفة بأهمية هذه المرحلة من عمر الإنسان في تكوين أفكاره وشخصيته، فـ "الطفل أبو الرجل" بحسب سيغموند فرويد، أي أن ما يتعلمه الطفل في نشأته هو ما سيؤثر على سلوكه فيما بعد، وعلى نمو شخصيته وتكونها.

ولهذا وجّه الشيخ عبد الله بن زايد، بتعزيز هذه المفاهيم في مناهج جميع الصفوف الدراسية، من مرحلة التعليم المبكر إلى مرحلة التعليم العالي، وأن تقدم هذه المناهج التاريخ الوطني للدولة، وأن تثري معرفة الطلبة، وتزودهم بالدروس والقيم الإيجابية والمهارات والحكمة في اتخاذ القرارات ليكونوا قادة للمستقبل وعناصر فعالة في المجتمع الإماراتي.

الأصالة والانفتاح
وإذا كنا هنا نشير إلى أهمية الحفاظ على الهوية الوطنية، فنحن نعرف أنها شأن اللغة ليست ثابتة، ولا جامدة، ولا هي بنية مغلقة تؤدي إلى التقوقع على الذات ورفض الآخر، بل هي كائن حي ينمو ويتطور، ولعل من يقرأ تجربة دولة الإمارات نفسها وكيف انتقلت من طور إلى آخر، وصولاً إلى مكانتها العالمية الراهنة، يدرك أن الهوية الوطنية، بالتوازي مع تمسكها بأسسها الراسخة وموروثها الثري، تحمل سمات متغيرة وتكتسب عناصر جديدة من محيطها. فالهوية الصلبة والمتماسكة هي التي تُصنع عبر التشبث بالأصالة وفي الوقت نفسه تقبل التغير والحيوية وتستجيب للتطور بما يناسب محيطها.

فليس من تعارض بين الاعتداد بالهوية الوطنية والأصالة والانفتاح على العالم. بل إن هذا هو جوهر مفهوم التسامح والتعايش الذي تدعو إليه الإمارات، وهو الانفتاح على الآخر وفهمه والحوار معه، أما قضية التأثير والتأثر فهي متروكة لحاجة كل مجتمع ولثقافته وقيمه وعاداته الموروثة ولأصالة أفكاره التي تحفظ نسيجه من الذوبان.