السبت 24 سبتمبر 2022 / 08:49

ماذا بعد "بوتين الرّهيب"؟

سمير التقي- النهار العربي

لعل حرب أوكرانيا تكون آخر حروب روسيا مع ذاتها العتيقة وضد ماضيها القيصري

ببرودة الجليد الحارق لكأس من الفودكا المتلألئة، تمتعت منذ أيام بقراءة رواية واقعية وخارقة في بصيرتها. فرغم أن جوليانو دي أمبولي، السويسري ومدرس العلوم السياسية في باريس، أنجز روايته "Le Mage du Kremlin" عام 2021، فإنه يروي (مستخدماً اسماً مستعاراً) وبفرنسية طاغية الجمال، سيرة فلاديسلاف سوركوف، مدير شؤون بلاط بوتين، ليحكي، مع بعض الخيال الثاقب، مسيرة بوتين في حكمه الشمولي.
إنه فلادي الصامت، المهووس والملتوي، يتأمل ألعاب الذئاب والسراديب السرية لحريم الكرملين، ويحكي السيرة النفسية الخلاسية لسوركوف الذي، ما إن فقد حظوته، حتى صار يتكلم!

عبر هذا اللاعب الأساسي في بلاط بوتين، يقدّم جوليانو بوضوحه العنيد والمزعج وبسرديته المبدعة، نظرة تاريخية ثاقبة، ووصفاً مذهلاً لملحمة صعود بوتين إلى السلطة، وصولاً إلى عتبة حربه المشؤومة ضد أوكرانيا.

ومن التمجيد الفاسق، إلى الخنوع المازوشي، يتنبأ جوليانو بالمأساة المحيقة، ويرسم، عبر رؤية رجل ظل بوتين، التحليل السريري لبراعة الاستبداد البوتيني.

بعدما قرأت هذه الرواية، وجدتني تائهاً! فأنا لم ألتقط بعد عمق التحول الجاري في أوروبا. إنها ليست حرباً من أجل الأراضي ولا اللغة، ولا الجيو-استراتيجيا، بل هي ملحمة دفن القيصرية وحرب حول نموذج الدولة في أوروبا، وكيفية حياة الناس وطبيعتهم، سواء كانوا روساً أم أوكرانيين أم مولدافاً.

منذ منتصف القرن التاسع عشر، وطوال القرن العشرين، شهدنا الملحمة الطويلة لأفول الإمبراطوريات حتى نزعها الأخير.

لقد احتاجت الإمبراطورية الألمانية أن تجر أوروبا للحرب العالمية الأولى ثم الثانية، كي تشفى من لوثتها الإمبراطورية. واستغرقت فرنسا قرنين لتخرج من إرث كليمنصو الإمبراطوري، وتمنح المستعمرات حريتها. وتحتفل بريطانيا بوفاة ملكتها تمجيداً لقيمتها التاريخية في أنها حاولت طي صفحة الفظائع الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية بواقعية وكرامة.

نعم، ليس السلام الأوروبي نتاجاً لـ"العقلانية الاقتصادية للأوروبيين ولا لطيبتهم وسلميتهم، بل نتيجة للهزيمة الماحقة لإمبراطورياتهم". ولقد جاء الآن دور آخرها.

أما مصيبة روسيا فكبيرة كبر جغرافيتها القيصرية وعظمة تاريخها. ومصيبة بوتين أنه لم يتعلم هذه الدروس. وحين يقول فاديم بارانوف: "لا أحد يفلت من مصيره، ومصير الروس هو أن يحكمهم أحفاد إيفان الرهيب"، فإنه يلتقط خيطاً إمبراطورياً غليظاً، يربط حلقات تاريخ روسيا، من سقوط الإمبراطورية الروسية عام 1917، إلى المخاض الممتد للدولة السوفياتية. هذه الدولة التي، رغم شيوعيتها الفائضة، بقيت إمبراطورية في فحواها، لتكون مجرد حلقة من حلقات الانحدار التاريخي للقيصرية.

حاول السوفيات لي عنق التاريخ، ومنع نهوض الدولة-الأمة في المستعمرات الروسية، وصارت الأممية الشيوعية ووحدة البروليتاريا، درع الإمبراطورية، والترياق المضاد للنهوض القومي والهويات الوطنية. وما إن انهار ذاك الانحراف التاريخي الذي مثلته الشيوعية، انهارت معه الأكذوبة الأممية، لتنفجر القضية القومية في شرق أوروبا من جديد.

لكن بعض الحظوة الروسية بقي مدمناً بإصرار على لوثته القيصرية! وبحسب معرفة كيسنجر، فرغم براغماتيته، يسود الرئيس بوتين وهم الإمبراطورية الروسية حتى العظم.

الإمبراطوريات لا تقبر إلا على يد الحركات القومية للتحرر الوطني. إنها هي التي تطلق طلقة الرحمة في رأسها المتفسخ. كذلك فعل غاريبالدي، وأتاتورك وغاندي وحركة التحرر الجزائرية، وصولاً إلى زيلينسكي! فلكي تقضي على اللوثة الإمبريالية، تحتاج لأن تبلور هوية وعصبية وطنية بديلة، ولقد فعلها الأوكرانيون.

هذا ما غاب عن بوتين. فبقي يستحضر المفردات الإمبراطورية الأوروبية العتيقة ذاتها، من نفي وجود الدول والأمم والقوميات التي يشتهي التهامها. وبحسب تصريحاته الشخصية، فلا الأمة المولدافية، ولا الجورجية، ولا الأوكرانية ولا الكازاخية موجودة ولا هي جديرة بأن تكون. وحسبها أن تلتحق بعظمة روسيا الأم. وحين تحتفل صحيفة كوسمولسكايا برافدا بثلاثة ملايين أوكراني يساقون من بلادهم مهاجرين قسريين، فذاك لأنهم يلتحقون بـ"أمهم روسيا".
وإذ أجد نفسي واثقاً بانتصار أوكرانيا تاريخياً، فلأن روسيا تخوض في القرن الحادي والعشرين، حرباً بعقلية إمبراطورية القرن التاسع عشر، وبالتكتيكات الصدئة للقرن العشرين.

أما أوكرانيا فشأن آخر. وفي رد صارخ في بساطته على مقولات بوتين، وبينما كان الشرق والغرب يراهنان على سقوط كييف، كان زيلينسكي ومساعدوه يلتفون كل يوم وسط العاصمة، ليصرخوا: "نحن هنا"، الدولة-الأمة الأوكرانية هنا، الهوية هنا، عقل هذا القرن وسمته هنا. وهنا يندمج المجتمع والنخبة والدولة ليولدوا نمطاً حديثاً من حرب التحرر الوطني. وأكاد أسمع هنا، صديقي الباحث الروسي المحترم، يرد أنه لولا الغرب لسقطت كييف في أيام، وكأنه يقول عملياً "دعونا نعيدهم إلى حظيرة أورويل، وصفقوا لنا".

وبعكس منطق بوتين، تخوض أوكرانيا حرب أوروبا في القرن الحادي والعشرين. لم تحتج أوكرانيا لقطع الإنترنت، ولا لمنع مواطنيها من معرفة الخطاب المعادي، ويعود من الخارج للدفاع عنها، مئات الألوف من الشبان. وفي حرب المعلومات، وعلى عكس مدحلة جوكوف، تستخدم كييف أحدث أساليب الاستطلاع لا لحرق الأراضي، بل لقطع الإمداد، ونسف المخازن الخ.

وفي المقابل، ترتفع ارتفاعاً جنونياً أسعار التذاكر من موسكو إلى اسطنبول ويريفان، بسبب هرب أكثر من نصف مليون شاب.

لعل حرب أوكرانيا تكون آخر حروب روسيا مع ذاتها العتيقة، وضد ماضيها القيصري. فأمامها خياران: إما دورة جديدة من الحروب الإمبريالية، أو أنها كما قال شولتس، تجعل أوروبا "الخيار الاستراتيجي". يعني ذلك بديهياً، أن أوكرانيا يجب أن تنتصر، وأن تخسر روسيا لعنة "إيفان الرهيب"، لتفوز بحق ذاتها العظيمة.

كانت الإمبراطوريات كبيرة دوماً! وروسيا بدورها أكبر 28 مرة من أوكرانيا وناتجها المحلي تسعة أضعافها، وسكانها أكبر بـ 3.3 مرات، وتعداد قواتها عشرة أضعاف، وقوتها النارية عشرين ضعفاً، واقتصادها من الحجم الكبير وتملك موارد طبيعية هائلة، ولا يزال لديها التدفق النقدي لشن حرب استنزاف.

لكن التاريخ لا ينحاز للحجم، بل لقوى المستقبل. وإذ تتعفن الإمبراطوريات وتتفسخ في انتظار نمو نقيضها التاريخي، لا يعود بيت القصيد هو الحجم، بل مدى التعفن والتخلف عن روح العصر. وما رأيناه منذ 24 شباط (فبراير)، من فساد يبدو كافياً لتحديد طبيعة المعركة، حتى لو تعثر البديل.
كما كنت في باريس ولندن، أكاد أحلم في عهد قريب بجولة سياحية في الساحة الحمراء، لأستعرض بعينين باردتين أطلال إمبراطورية روسية قديمة-حديثة، وأشهد آسفاً خيبة آخر أباطرتها، "بوتين الرهيب".

أما الإمبراطوريات في مشرقنا، فمشاريعها متواضعة يتلاعب بها بعض الأفّاقين من عيار، بن لادن، ونصر الله، وصدام، وفي أحسن الأحوال عفلق، والبنا. ولعل في ذلك خيراً!