الأحد 25 سبتمبر 2022 / 09:32

انتفاضة المودعين في لبنان

محمود حسونة- الخليج الإماراتية

رسبت الدولة اللبنانية في كل اختبار كان يمكن أن يعيد إليها ثقة مواطنيها فيها

من المهام الأساسية لأي دولة في العالم حماية حقوق مواطنيها وإدارة أمور حياتهم بما يضمن أمنهم وأمانهم، وهو ما ينعكس عليها استقراراً وازدهاراً. ولكي تنفذ الدولة، أي دولة، مهامها تضع دستوراً تَوافق عليه مواطنوها، وتسن قوانين وتشريعات تفرض على الجميع الالتزام بها وتعاقب الخارجين عليها.

عندما تعجز الدولة عن حماية حقوق مواطنيها تنتفي عنها صفة الدولة، حيث تسود الفوضى وتنتشر الفتن، وعندما تكون هي التي تستولي على حقوق الأفراد وتمنع عنهم مستحقاتهم ولا تطبق القانون وتحمي الفاسد وتعجز عن ملاحقة الظالم وتدير ظهرها للمظلوم وتصب جام غضبها على المستضعفين، تكون الطامة الكبرى، وتفقد ثقة مواطنيها فيها، ما يجبر الكثيرين على اللجوء للقوة لاستعادة حقوقهم وحماية أنفسهم وذويهم، ويفرز فوضى اجتماعية تهدد وجودها وتحولها إلى دولة هشة.

خلال السنوات الثلاث الماضية، رسبت الدولة اللبنانية في كل اختبار كان يمكن أن يعيد إليها ثقة مواطنيها فيها، الأزمات تتوالى والمسؤولون التنفيذيون والحزبيون يتبادلون التلاسن ويتفرغون لجني المكاسب السياسية.

خرج الناس إلى الشوارع غاضبين في أكتوبر 2021، واعتصموا في الشوارع ورفعوا الصوت منددين بما آلت إليه الأوضاع، لكن أصحاب القرار صموا آذانهم، وبدلاً من أن يتحركوا لاحتواء الغضب بقرارات تطمئن الناس على المستقبل تصدوا لهم أمنياً وأجبروا خيرة الشباب والنساء والرجال على الهجرة فراراً من الجحيم المعيشي واللامبالاة السياسية.

انفجر المرفأ وسمع ورأى العالم كله الصوت والمشهد المروع، لكن السياسيين اللبنانيين لم يسمعوه، ولم يغير هذا الحدث الجلل لهم نهجاً؛ بل واصلوا التصارع على مقاعد الحكم، والتحكم في منافذ القرار، بما يزيد الدولة شللاً ويحولها إلى جثة هامدة؛ وبدلاً من أن يسلموا المتسببين في الانفجار وما نجم عنه من مئات القتلى وآلاف الجرحى وعشرات آلاف المنازل المهدمة وسكانها في الشارع مشردين، قاموا بحماية الجناة ورفضوا تسليمهم للعدالة وشككوا في المحققين العدليين واستبعدوا منهم من أراد كشف الحقيقة.

توهم المتفائلون أن يكون انفجار المرفأ الحدث الذي يوقظ الضمائر وينفض عن لبنان غبار الفساد السياسي ويضع حلولاً لأزماته، فكان الحدث الذي زاد معه الفاسدون فساداً وزادت الدولة انحداراً، وانهارت الخدمات، وانقطعت الكهرباء بشكل شبه كامل ودخلت الدولة نفقاً من الظلام، من دون شعاع ضوء في آخره.

أطلقوا على لبنان في الماضي، سويسرا الشرق لأسباب كثيرة وعديدة، وكان قبلة للمغضوب عليهم سياسياً ومركزاً لتجمع المبدعين ومنارة للمثقفين ومسرحاً للفنانين العرب، وكان أيضاً الملاذ الآمن لأصحاب رؤوس الأموال الذين يبحثون عن مكان يودعون فيه أموالهم وهم مطمئنون لسرية نظامه المصرفي بما يحقق لهم الأمن والأمان المالي، واليوم أصبح لبنان صاحب أسوأ نظام مصرفي بعد أن خانت مصارفه العهد ونقضت مواثيقها مع المتعاملين معها، ورضخت للفساد وجمدت أموال المودعين؛ وبعد أن طرق المودعون كل الأبواب لاستعادة ولو جزءاً من ودائعهم لتلبية احتياجاتهم المعيشية دون جدوى، لجأ البعض للقوة أسلوباً لاستعادة بعض مستحقاته لتنفجر ثورة المودعين ويتم اقتحام عدد من البنوك بعد أن أصبحوا عاجزين عن تلبية أدنى احتياجاتهم الحياتية والعلاجية.

هي ثورة أو انتفاضة غير مسبوقة عالمياً، وهي أساليب مرفوضة قانونياً، لكنها تحدث في دولة غاب فيها القانون وتم تطبيقه على الضعفاء فقط، وهي نهج يدين المقتحمين للبنوك، لكنه يدين قبلهم من جمّد أموالهم واستولى على حقوقهم بلا مبرر أخلاقي ولا قانوني. وذلك يحدث في دولة تنازلت عن واجباتها في حماية حقوق مواطنيها وخذلت أهلها وحرمتهم من أبسط الخدمات.

عندما تحافظ الدولة على حقوق مواطنيها وتوفر لهم سبل العيش الكريم تكسب احترامهم، وعندما تتخذ العدالة نهجاً وتطبق القانون على كبارها يلتزم أهلها بالقانون ويعيشون تحت سقفه وهم سعداء، أما عندما تتخلى عن دورها يضطر مواطنوها للخروج عن المألوف لحماية حقوقهم بأنفسهم، وإذا لم يعد لبنان السيد القوي الحر فلن يجد أهله أمامهم سوى الفوضى نهجاً والغضب أسلوباً ليدفع الجميع الثمن غالياً.