الجمعة 7 أكتوبر 2022 / 20:34

المولد النبوي .. رؤية ثقافية وحضارية

هل من شك في أن يوم المولد النبوي هو بداية فجر جديد للبشرية كلها، وليس حدثاً من الأحداث العابرة، أو الوقائع الدينية التي يمكن أن تتكرر، ولا يمكن اعتبارها جزءاً من، مثله في هذا مثل الهجرة النبوية، والإسراء والمعراج، وغيرهما من الأحداث الدينية الفاصلة.

وكيف لا يكون يوم مولده انعطافاً إيمانياً وتاريخياً وحضارياً لكل مسلم، فقد بدأت قصة خلاص البشرية من ظلام الكفر والشرك والفجور والعصيان، والجهل والتخلف، فهو رحمة للعالمين على امتداد التاريخ، وهو حريص علينا لنهتدي، وبالمؤمنين رؤف رحيم.

لذا فإن الاحتفاء بمولد النبيّ عليه الصلاة والسلام، والاحتفال بسيرته، هو تطبيق عملي لمدى محبته الكامنة في النفوس، فلا بد أن نَعد هذه الأيام جزءاً من الحاضر الممتد، بل والمستقبل الذي سيتشكل ويتبلور.

إن إحياء المناسبات الدينية في ظل التزامات الحياة يُعمق الوعي الجمعي ويعمل على تفعيل القِيم في النفوس، لتحافظ على الهوية، لأنها تعيد صياغة التصورات الصحيحة عن الدين، وتغيير القناعات البالية، وتفنيد المفاهيم الخاطئة، وذلك لأن ثقافة السيرة، ضرورة ملحة لرفع منظومة القيم، فحياته أسوة والتأصيل لمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام واجب شرعي، وإظهار الوقار لقدره صلى الله وعليه وسلم، وغض أصواتنا وخفضها عندما نزوره أمر رباني، أولئك المؤمنين الذين اختبر الله قلوبهم للإيمان، لهم المغفرة وفضل جزيل، ويكفي أن نعلم أن الله يخفف العذاب عن أبى لهب كل يوم اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته، لما بشرته بولادة النبي صلى الله وعليه وسلم.

لقد باتت الرؤية الثقافيَّة ليوم مولده جلية للعيان، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه قبل بزوغ فجر الإسلام، كانت النشأة الأولى لفن "المديح النبوي"، فإذا تتبعنا تاريخ المديح النبوي، سنجد أن أوله ما قاله عبد المطلب إبان ولادة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ شبه ولادته بالنور والإشراق، حين يقول:

"وأنت لما ولدت أشرقت ** الأرض وضاءت بنورك الأفقُ
فنحن في ذلك الضياء وفي ** النور وسبل الرشاد نختــرقُ

ثم ها هو أبو طالب يمدح النبي (ص) في صغره، عندما استسقى به في أيام القحط.
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الـهُلَّاك من آل هاشم ** فهم عنده في نعمة وفواضل".

كما استمر المديح بشمائله، وهو حي عليه الصلاة والسلام، من الشعراء أمثال حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وعبد الله بن رواحة، فقد كانوا يكتبون الشعر في مدح الرسول، صلى الله عليه وسلم، فكأن هذا فن من فنون المحبة والشوق، والشغف بمدح خصائصه وخصائله.

إن الحضارة الإنسانية الرشيدة وقواعدها الربانية المَرضية، تدعونا للاصطفاف حول الأهدافِ المشتركة من غرس قيم الأخوة الإنسانية وحوار الحضارات، والمجادلة بالتي هي أحسن، ومد جسور التواصل والتعاون مع مختلفة ثقافات، وأديان الشعوب الأخرى.

إن هذه القيم في حد ذاتها خطوة تاريخية نحو التحضر، وقد أسهم العرب في الاضطلاع بهذه الرسالة، من خلال تسامحهم ومبادئهم الإنسانيَّة التي أزالت الفوارق والتمييز العنصري، ولهذا تركوا للعالم آثاراً ناطقة بمجدهم وفضلهم على العالم.

ولطالما كان استشعار الاحتفاء بالمولد رسالة ذات مغزى تربوي وأخلاقي وروحي، وذلك بقراءة السيرة، وتدارس الشعر، والمديح النبوي، لتأصيل نهج المحبة، ومدارستها من باب الأسوة الحسنة، فهي فضيلة في هذا الشهر، وأحوج ما نكون إلى هديه في هذا العصر الذي كثُرت فيه الشدة والغلظة والتطرف، والقسوة والتكفير، واختطف الدين، ما جعل المسلم يعيش في غربة، فمن أراد أن يمضي على سيرة الرسول ويقتدي بهداه، ويتخلق بأخلاقه فعليه، أن يكون محباً أولاً.

ولهذا فإنه لا طريق إلى الخلاص من كل ذلك إلا باتباع "نهج المحبة" التي تلطف الأجواء، وتُعزز أدبيات التدين الروحي الصحيح، ولهذا كانت طريقة إظهار المحبة، إما بالشعر، أو التماس التذكير بطريقة "نهج المحبة"، أو الاحتفال أو الاحتفاء، وإظهار البهجة، أو بقراءة شمائله، ومحاولة النهل من القيم الإنسانية التي تدعو لها رسالته، وإجمالاً، فإن الاحتفال بمولده صلى الله وعليه وسلم لا تشوبه بدعة أو يُلتمس بقربه معصية.

إن الاحتفال بذكرى مولد سيد الكونين من أفضل القربات، لأنه يُعبر عن المحبة له، وتعظيم يوم مولده، وشكر الله تعالى فيه على نعمته، وكان صلى الله عليه وسلَّم يحتفل بيوم مولده، وكان يُعبر عن ذلك التعظيم بالصيام، كما أن محبته أصل من أصول الإيمان، وقال: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى أَكُونَ أَحَب إِلَيهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالناسِ أجمعين"، فمحبته تضرب أطنابها قلوب المؤمنين، والتعبير عنها ليس على درجة واحدة أو متسقة، بل لها عدة طرائق في التنفيس عنها.

وللرد على من يقول ببدعية الاحتفال بيوم المولد الشريف، نقول إن جماعة من العلماء والفقهاء ألفوا في استحباب ذلك، وبَينوا بالأدلة الصحيحة استحباب هذا العَمل، بحيث لا يبقى لمن له عقل وفهم وفكر سليم، إنكار ما سلكه سلفنا الصالح من الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف.

إن يوم المولد الشريف يمكن أن يضيء للعقل المسلم آفاقاً جديدة من الوعي والفهم والتبصر، إن هذا الحدث الفريد يحمل الكثير من الدروس المستفادة، ولكن تفعيلها والنهل من إرثها الثقافي والروحي والمعرفي، هو الذي يُعمق أثرها في النفوس، والنفاذ بسهولة إلى مختلف الأزمان والأجيال.