الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي
الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي
الخميس 17 نوفمبر 2022 / 19:22

حروب أخرى لاتقل تدميراً ...من منصات الصواريخ إلى منصات التواصل

24- سليم ضيف الله

طيلة ثلاثة أيام احتضنت العاصمة أبوظبي الكونغرس العالمي للإعلام، في تظاهرة ضخمة أراد لها منظموها أن تكون ملتقى دولياً يسلط الضوء على الإعلام ودوره الخطير سياسياً واجتماعياً، واقتصادياً، وحتى في صناعة السلم أو الحرب، ما يجعله أحياناً من الأسلحة الفعالة، إن يكن سلاح دمار شامل لا يختلف في شيء تقريباً عن النووي، والكيميائي والبيولوجي.

ويكفي المنظمين نجاحاً، في تقديري الشخصي المتواضع، تزامن الكونغرس، مع حرب ضارية في أوكرانيا، كان الإعلام فيها سلاحاً رهيباً ولا يزال، وذلك بمناسبة ما يمكن وصفه بأزمة الصاروخ الذي سقط في بولندا، والاتهامات الأوكرانية لروسيا الصريحة، بالهجوم على جارتها، وتفنيد موسكو المرتبك، وتشكيك البيت الأبيض في الأمر، ونفي حلف شمال الأطلسي، وتشكيك الاتحاد الأوروبي.

ولكن ما علاقة الإعلام بالصاروخ والجبهات.

في البداية يكفي النظر إلى الوقائع لنقترب قليلاً من الحقائق، فحتى قبل سقوط شضايا الصاروخ الذي خلف ضحيتين على أرض بولندا، أطلقت أوكرانيا، على لسان رئيسها ووزراء حكومته، حملة شعواء على التواصل الاجتماعي لاتهام روسيا، والمطالبة بالرد الغربي عليها، ممثلاً في حلف شمال الأطلسي، لعضوية بولندا فيه، وفي ظل البند الذي يعتبر أي عدوان على أي عضو فيه سبباً كافياً لرد أطلسي فوري عليه.

استمرت كييف في اتهاماتها ومطالبتها ومناشداتها، حتى رغم البيانات المشككة والنافية والمستبعدة من أكثر من جهة وطرف، من روسيا إلى أمريكا، ومن فرنسا إلى ألمانيا، وتباينت الردود الرسمية، بين التكذيب والاستبعاد والتشكيك، وحتى تأكيد أن الصاروخ أوكراني أصلاً. ومع ذلك لم تهدأ جبهة كييف، واستمر القصف في كل اتجاه، في مقابل برود روسي مثير للحيرة.

هذه الواقعة وحدها، التي سمحت لأوكرانيا مرة أخرى بتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية على حساب روسيا، تكشف كيف أنها استعدت للحرب منذ زمن حتى اندلاعها، بصواريخ الإعلام. ففي الوقت الذي كانت فيه روسيا تحشد الجنود، وتجهز سوخوي من مختلف الأجيال، وصواريخها الشيطان، وكنجال، وغواصاتها المرعبة، كانت أوكرانيا تحشد تويتر وفيس بوك للرد على القصف بالقصف وعلى الصاروخ بتغريدة وبوست.

يبدو المشهد في ظل المعركة الراهنة، أكثر من حرب بين بلدين، بل هي حرب بين جيلين، وعقلتين. وبالنظر إلى الرئيس الروسي مثلاً فهو يبدو أقرب إلى والد الرئيس الأوكراني الشاب، الذي يطلق تغريداته وبوستاته على فيس بوك، مثل الجندي الذي يطلق رشاشه متعدد الطلقات، وفي مقابل وزير الخارجية الأوكراني الذي يبدو أقرب إلى مراهق منشغل بلعبه الإلكترونية يبدو نظيره الروسي بحكم تقدمه في السن، أقرب إلى أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق.

وبالنظر إلى إدارة الحرب بين البلدين، تبدو الفروق شاسعة بشكل مذهل، فالحرب الدائرة على فيس بوك وتويتر، تقابلها موسكو ببيانات تذكر كثيراً بصحيفة ببرافدا أثناء الحرب العالمية الثانية، أو ببيانات "بوليتبورو" مكتب الحزب أثناء الحرب الباردة.

ورغم أن كييف فشلت في إثبات "التهمة" على موسكو في جريمة الصاروخ، فإن ذلك لا يحجب أمراً لا يجب التغاضي عنه، أي دور الإعلام خاصةً ما أصبح يعرف بالجديد، أو الحديث أو الإلكتروني، أو بالتواصل الاجتماعي مقارنةً بالكلاسيكي، لا أقول التقليدي، ذلك أن الإعلام الذي عرفناه رغم عيوبه ومساوئه، أقرب إلى السيارة المنطلقة في شارع لا يمكنها تجاوز حدود السرعة، والتهرب من إشارات المرور، والرادار، في مقابل إعلام جديد، أشبه بسيارة سباق في حلبة "فورمولا وان".

لم تتوقف أوكرانيا عن القصف حتى بعد تأكيد الحليف الأكبر، الولايات المتحدة نفسها، أن الصاروخ ليس روسياً، ومحاولة ترضية كييف بعض الشيء، باتهام روسيا بالمسؤولية عن سقوط الصاروخ الأوكراني في بولندا، واستمر الرئيس فولودومير زيلسنكي في تأكيد، أن الصاروخ روسي، ويكاد يضيف ضمناً مما يفهم من كلامه "...وإن كان أوكرانياً".

ولسائل مثلي أن يتساءل لم يصر الأوكراني، رجل التلفزيون والإعلام والتمثيل، على الاتهام وهو الذي يدرك أن الأمور غير ذلك تماماً؟ الرد لا يمكن أن يكون إلا أنها محاولة لإحراج الغرب وحلف ناتو نفسه، أمام الرأي العام الغربي، المتعاطف مع أوكرانيا حتى قبل اندلاع الحرب نفسها، بعد التمهيد الإعلامي الهائل والمطول على امتداد أشهر من أوكرانيا عبر الإعلام الإلكتروني، والتواصل الاجتماعي خاصةً. ويسعى الرئيس بذلك لدفع ناتو للحرب إلى جانب أوكرانيا، بدعوى الاعتداء على بولندا.

وفي المقابل، يجد الغرب نفسه في حرج، فلم يتخلف عن إحراج حليفه بالنفي من جهة، مع محاولة استرضائه باتهام روسيا بالمسؤولية، ولكنه أيضاً لن يسقط في الفخ الإعلامي الأوكراني لأنه غير مستعد في كل الظروف، للقتال بأول جندي من الحلف دفاعاً عن أوكرانيا، نعم هو يريد القتال حتى آخر جندي أوكراني في هذه الحرب، مع توفير السلاح والعتاد، والمعلومة الاستخباراتية، وبالحرب النفسية، ولكنه لن يغامر بمواجهة صواريخ روسيا الباليستية، أو صواريخها الشيطانية 1و2 أو صواريخ "يوم القيامة".

هي حرب وقودها جنود من هنا ومن هناك، ولكن سلاحها الأول والأخطر، الإعلام والتواصل، ما يعيدنا إلى زمن حرب الخليج الثانية، ودور "سي إن إن" فيها مثلاً، ثم حرب الخليج الثالثة قبل غزو العراق، والتقارير الإعلامية "الموثوقة" عن أسلحة الدمار الشامل. لكن الأخطر في الحرب الحديثة، أنها قادرة على تحقيق "انتصارات" عسكرية هذه المرة، ففي أوكرانيا، على عكس الحروب السابقة، فإن روسيا خسرت الحرب، ليس في دونباس، ولا في كييف، ولا بوشا، أو في شبه الجزيرة القرم، بل على جبهة تويتر، وفيس بوك، وتلغرام، الروسي للمفارقة، لأنه إعلام لم تنجح موسكو في التعامل من جهة، ولأنها هونت من شأنه ثانياً، على عكس كييف ورئيسها الشاب المتمكن من هذه المنصات وتكتيكات تطويعها وتفعيلها.

وللغرابة، تنطلق الصواريخ العسكرية والمدنية أيضاً من منصات متحركة وثابتة، في المقابل ينطلق الإعلام الإلكتروني والتواصل الاجتماعي أيضاً من منصاته التي أثبتت أنها ليست أقل فتكاً ولا تدميراً، لنغلق القوس من حيث انطلقنا، من الكونغرس العالمي للإعلام، الذي تواصل أيام 15 و16 و17 نوفمبر(تشرين الثاني) الجاري، في أبوظبي.