الأحد 27 نوفمبر 2022 / 20:02

قيمنا: أصالة تلهم الحاضر وتستشرف المستقبل

حين أشار صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة العربية السعودية، في «قمة جدة» في يوليو الماضي، إلى «قيمنا النبيلة، التي نفتخر بها ولن نتخلى عنها، ونتمنى من العالم احترامها كما نحترم القيم الأخرى، بما يعزز شراكاتنا ويخدم منطقتنا والعالم»، فإنه كان يتحدث عن العالم العربي بشكل عام، وبشكل خاص عن دول الخليج العربي، انطلاقاً من هذا الانسجام القيمي بينها، وبناها الاجتماعية والثقافية والفكرية، وعاداتها وتقاليدها وموروثها الحضاري والإبداعي ونظرتها إلى الكون والإنسان وموقعه في العالم، ويدعم ذلك كله تواصل جغرافي تكاد تغيب فيه الحدود والفواصل، ووشائج نسب وقربى تمتد في الدول الست جميعها وتحتل مكانة كبرى في الوجدان الجمعي. وزخم متنامٍ في التنقل بين الدول الست، مدعوماً بتسهيلات واتفاقات تجعل منها ساحة مفتوحة أمام الجميع.

فالتجانس والانسجام الفكري والمجتمعي والنفسي في دول الخليج العربية، يشكلان ملمحاً لا يخفى على كل من أتيح له الاطلاع على مسيرة الدول الست التي تجمعها مظلة مجلس التعاون الخليجي، وتاريخها ونظمها السياسية وبناها الاجتماعية. فعلى الرغم من انتماء دول منطقة الخليج العربي إلى إطار ثقافي وحضاري عربي، فقد بقيت لها خصوصيتها وشخصيتها الجمعية الجليَّة. ويمكن عزو هذا الانسجام والتجانس إلى منظومة القيم التي تحكم مختلف جوانب الحياة في الدول الست، وتصوغ الرؤى والأفكار والتصورات والمواقف من العالم وقضاياه وتحدياته ومشكلاته، وهي منظومة تتشارك العديد من السمات في أسسها ومنطلقاتها ومراحل تطورها عبر التاريخ.

فالثقافة العربية تنطلق من البيت والأسرة الموحدة، ومن شجرة الأم وجذر الأب، والجدّ والجدّة، والتاريخ الضارب في الأصالة، لقد سُمّيَ "بيت" الشِعر في القصيدة العربية بيتاً لأنه يضمّ الكلام كما يضمّ البيت أهله، والمقاطع الشعرية بالأوتاد بما يرمز لأوتاد البيت، والمداخل للأبواب والنوافذ، وغيرها من المترادفات، وقد أوجد هذا التداخل خصوصية يصعب خلخلتها، أو إلغاء حضورها وأصالتها، لهذا تمتلك ثقافتنا مناعة فريدة ضدّ الذوبان أو التلاشي أو فقدان الهوية.



القيم أساس القوة
وحين ألقى صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان هذه الملاحظة في القمة، فقد اختار أن تكون موجَّهة إلى العالم بأسره الذي يقوم على قيم متنوعة تختلف من مجتمع لآخر، احتراماً لهذا الاختلاف والتنوع، ورغبة في أن يحل التفهم والاحترام للقيم بديلا عن التعصب والإقصاء، لأن القيم كما يراها أصالة تُلهم الحاضر وتستشرف المستقبل.

فالقيم في دول الخليج العربي، ليست مجرد إطار أخلاقي خارجي أو حزمة من العادات والتقاليد المنفصلة عن جوهر تجربتها الناجحة في التطور السياسي والاجتماعي، وقدرتها على تجنُّب الأخطاء والعثرات، التي واجهتها تجارب مماثلة في بناء الدولة الحديثة في المنطقة وفي أماكن أخرى من العالم. فمما لا شك فيه أن منظومة القيم تلك كانت عامل قوة مكيناً وصلباً أتاح لها أن تسد كثيراً من الثغرات والصدوع التي كان يمكن لها أن تتركها نهباً للضعف والتزعزع.

وللبرهنة على ذلك، فإنه بقدر ما اعتمدت الدول الخليجية الحديثة على فكرة المواطنة أساساً لها، فقد كانت المواطنة مدعومة بمزيج صلب ينتمي إلى رابطة النسب والدماء المشتركة المتجذرة في الخليج العربي، والتي تجاوزت المواطنة بمعناها المجرد، والتعاقد الآلي القائم على الحقوق والواجبات، إلى معنى أكثر اكتمالاً، تجتمع فيه الأُخوّة والترابط ووحدة الدم، جنباً إلى جنب مع الحقوق والواجبات، وهو ما كان مصدر قوة لدول المنطقة وركناً صلباً من أركان نجاحها الذي يسطع كشمس الصحراء.

هذه القيم ذاتها هي التي جعلت دول منطقتنا قادرة على الانخراط في ركب التطور والتحديث، فأنشأت الهياكل الإدارية الحديثة، والمؤسسات الوطنية القوية، والصروح الاقتصادية الكبرى، والصناعات المتطورة، وأنشأت الجامعات ومراكز البحث، وأسهمت في التطور العلمي، وأقامت البنى التحتية المتطورة وحافظت لشعوبها على مستوى معيشة يمثل حلماً لكثير من الشعوب. وما ذلك إلا لأن الهدف الأسمى للقائد في مجتمعات الخليج العربي منذ قرون، شيخاً لقبيلة أو حاكماً أو قائداً، كان ضمان أفضل حياة لمن يقودهم، ليس على نمط التعاقد بين رئيس وشعبه فحسب، بل بين أب وأبنائه وذوي رحمه، ولطالما كان الخير في هذه المجتمعات من حق الجميع، لا تنفرد به فئة دون أخرى، وهو ما يتجسد في الوقت الراهن في توفير الرخاء لكل مواطني دول مجلس التعاون دون استثناء. ولهذا لا تعرف هذه الدول الفقر أو البؤس، وتصل ثمار التنمية وخيرها إلى الجميع.



هوية متماسكة
تجاوزت شعوب المنطقة شظف العيش وقسوة الطبيعة خلال قرون طويلة عندما أعلت من قيمة الجماعة، ومن تضحية الفرد لأجلها، وتفانيه في تحقيق مصالحها، وحين تأسست الدولة الحديثة استبقت مجتمعات الخليج العربي هذه القيمة الرفيعة، فنجت من الفردية المتوحشة التي أعلت رغبات الفرد وغرائزه واحتياجاته ومنحتها قدسية في غير محلها، وقدَّرت حق التقدير قيمة إطلاق طاقات الفرد وقدراته وتقديم كل ما يحفزه على التفوق، دون أن تغفل لحظة حق الجماعة الذي غرسته في نفوس الأجيال، فأقامت توازناً أضاف إلى قوتها وساعدها على المضي بثبات نحو الأمام.

وقد ارتبط الانتقال إلى الدولة الحديثة في كثير من مناطق العالم بما يشبه الصدمة، واهتزاز المنظومة القيمية بفعل ما يطرأ على المجتمع من تغيرات، وظهور طبقات وفئات متنابذة وجزر اجتماعية منعزلة تختلف القيم لديها اختلافاً كبيراً، وتزايُد الإحساس بفقدان الهوية والاغتراب المجتمعي، لكن دول الخليج العربية اجتازت هذا المنعطف الصعب بسلاسة ويسر نادرين، وظل إحساس الهوية الموحدة والانسجام الثقافي والفكري وتقارب نمط الحياة قويّاً لدى كل الطبقات والفئات، ولم تتعرض ثوابت المجتمع لتحدٍّ يُذكر، ووفر عليها هذا كثيراً من العناء والصراعات، ومنحها القدرة على أن توجه جهدها كله نحو مزيد من التنمية والرخاء وتعزيز القوة والمكانة.

في كل جانب من جوانب الحياة، سنجد أن القيم كانت عامل قوة، بدْءاً من نمط الحكم، وصولاً إلى ثقة الشعب بالقيادة التي تنتمي إليه ولا تختلف عنه فكراً وسلوكاً ومظهراً ونمط حياة، ووجود قنوات لا تنقطع للتواصل المباشر والشخصي بين القيادة والشعب تدعم العمل المؤسسي وتعززه، ورسوخ قيم العمل التي تُعلي من احترام مكانة المسؤول وتنبذ المزايدات الفارغة، دون أن يعني ذلك غياب المساءلة والمحاسبة.

إن ما تملكه دول مجلس التعاون الخليجي من تجارب عايشناها بأنفسنا يغني عن الدخول في سراديب التنظير، ويكفي أن نسترجع ما أنجزه الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات حين قدم للعالم نموذجاً مبهراً في بناء الدولة الحديثة استناداً إلى منظومة القيم التي تربى عليها، وصنع تحولاً عميقاً في بنية المجتمع دون أن يختل سلم القيم.

وقد لخص صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات نهج والده بقوله: "الإمارات تعتز بهويتها، وأصالتها العريقة، المستمدة من تعاليم ديننا الحنيف، والموروث الثقافي لآبائنا وعادات وتقاليد أجدادنا، بما تجسده من قيم إنسانية وأخلاقية نبيلة، وسلوكيات حضارية رفيعة".

نموذج حضاري
لا أبالغ حين أقول إن النموذج الحضاري الذي تقدمه دول الخليج العربي للعالم واحد من أرقى النماذج التي يمكن التمثل بها عند الحديث عن مفهوم القيم في ارتباطها بنجاح الحضارات. إذ تجاورت في منظومتها القيمية، وتكاملت، مجموعة من القيم فردية كانت أو جماعية، حولت المجتمعات إلى بيئة منفتحة قادرة على استيعاب ممثلي كافة الثقافات والحضارات في تكامل مدهش لا يطغى فيه أحد على الآخر، ولا يطمس أحد ملامح حضور الآخر أو ينتقص من حقوقه، ومن دون تأثير على المقاصد الرئيسية المكونة لهوية الوطن المستمدة من تاريخها وثقافتها ولغتها وعقيدتها وتصورها لدورها الحضاري وموقفها من الكون والوجود.

يمكن في هذا السياق التحدث بثقة عن قيم العمل، والتعاون، والوطنية، عن قيم الإيثار والمحبة والتسامح، عن قيم احترام البيئة وثرواتها، عن قيم العلم والسعي لاكتسابه وتطبيقه في خدمة الناس، عن قيمة التخلق بالأخلاق الحسنة والابتعاد عن الأخلاق المنبوذة، عن قيمة إعلاء كلمة القانون، عن قيمة العدل، عن قيمة العطاء والبذل، حيث تتجلى كل قيم الخير والجمال والمحبة في حضارة واحدة كانت سببًا في هذا التعايش المثمر. فمنظومة القيم المحددة ضمن رؤية واضحة هي أبرز المؤشرات التي يقاس بها تقدم الأمم في العصر الراهن.

لهذا كله جاءت كلمات صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في محلها تماماً، لأن واقع الحال يصدُّقها، إذ أصبحت دول الخليج عنصرا حاسما في استقرار المنطقة، بل في العالم بأسره، ففي حين تضطرم المنطقة بالأزمات والصراعات تظهر دول الخليج واحة آمنة مستقرة ماضية بثبات في طريقٍ رسمتها لنفسها نحو مزيد من الرخاء والتقدم، وتجد طريقها إلى صدارة كثير من المؤشرات في التصنيفات العالمية الموثوقة في السياسة والاقتصاد والعلم والتعليم ومظاهر التقدم المادي والروحي على السواء.

وفي حين تضرب الأزمات العالم، سياسية واقتصادية وأخلاقية، تقف دول الخليج قوية، بل إن العالم يفزع إليها في أزماته تلك، كما حدث في الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008. ويحدث هذا في أزمة الطاقة التي تواجهها أوروبا حالياً بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. وفي حين تتضخم النزعات المتطرفة والعرقية وكراهية الآخر ويهيمن التطرف في الغرب، تحمل دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية راية التسامح في المنطقة والعالم، مع أشقائهما من دول الخليج العربي، وتقودان الجهود الدولية لمحاربة الكراهية والتمييز والتعصب، فيما يحظى قادة الدولتين بأعلى معدلات الثقة والمحبة والاحترام.

هذه، ببساطة، هي بعض ثمار تمسك شعوب المنطقة ودولها بقيمها، وقدرتها على تفعيلها في البنية السياسية التي استفادت من كل المنجزات الحديثة في البناء والتنمية، لكنها أضافت إليها المزيد من المتانة، وعالجت مشكلاتها، من خلال منظومة قيمية تدعو إلى الفخر والاعتزاز، وهو ما أراد صاحب السمو الملكي إيصاله إلى ضيفه الغربي بكل صراحة واقتدار.
..............................
*نقلاً عن "المجلة العربية"