متظاهرون ضد الحرب في أوكرانيا (أرشيف)
متظاهرون ضد الحرب في أوكرانيا (أرشيف)
الثلاثاء 6 ديسمبر 2022 / 13:39

الأوروبيون يملكون السلاح...لكنهم غير مستعدين للقتال

تناول الباحث المشارك لما بعد دكتوراه في مشروع جيمس ماديسون بجامعة برينستون ألكسيس كاريه، إشكالية عجز أوروبا عن الاستعداد لخوض الحروب، لافتاً إلى أنه لا يقتصر على التسلح فقط.

من الصعب على المجتمعات السياسية التي تُدين استخدام العنف منذ البداية تحديد الظروف التي قد تتطلب الدخول في نزاع، والمبادئ التي قد تبرره.

وكتب في مجلة "فورين بوليسي" أن القادة العسكريين الأوروبيين يدركون منذ فترة أن النزاعات العسكرية عالية الحدة، وحتى الحروب الكبرى، احتمال حقيقي في القارة. سيكون من غير العادل القول إن القادة الأوروبيين غير واقعيين أمام التهديدات التي يواجهونها. لكنهم ارتكبوا خطأ الاعتقاد أن الرد المادي على التهديدات سيكون كافياً.

ما أدركه بوتين
إن التسلح جانب واحد من مشكلة أوروبا. لحلف شمال الأطلسي وسائل عسكرية أكثر تفوقاً بكثير من تلك المتاحة لروسيا. لكن ذلك لم يمنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تنفيذ خطته العدوانية ضد أوكرانيا، لأنه فهم الوقائع السياسية والأخلاقية خلف ستار غياب التوازن المادي.

أدرك بوتين أنه رغم قوتها المادية، فإن أوروبا عاجزة عن احتضان نزاع مفتوح. لا يمكن أن تصبح الأسلحة التي تملكها أوروبا تهديداً لأي كان طالما أن المجتمعات الأوروبية لم تظهر القدرة والتصميم على استخدامها.

بسبب الديمقراطية
في محاضرة ألقاها بداية الحرب العالمية الثانية، لاحظ الفيلسوف السياسي الفرنسي ريمون آرون، أن الديموقراطيات، ورغم قوتها وثرائها، شجعت على العدوان حين فصلت مكاسب السلام على الفضائل العسكرية التي زعمت الأنظمة التوتاليتارية احتكارها.

 لم يكن التفوق على مستوى المقاييس يعني شيئاً تقريباً في المجال السياسي، دون السمات الأخلاقية التي تجعل المجتمعات السياسية جاهزة لتعبئتها بالعمل الملموس. من بين هذه السمات الأخلاقية فهم مشترك للمبادئ، الشعور بالخير العام، والتي يكون المجتمع جاهزاً لبذل تضحيات من أجلها.

فهم أوروبا للتسوية
في 1952، ألقى آرون محاضرة أمام كبار موظفي الخدمة المدنية في المستقبل قال فيها، إن "أعظم نقاط ضعف الديموقراطيات هي دفع روح التسوية إلى أبعد مما يجب. أي، الاعتقاد أن كل شيء يمكن حله بالتسوية. في كل مرة واجهت فيها الديموقراطيات أنظمة تسلطية، ظنت دوماً أن المسؤولين فيها كانوا منطقيين بما يكفي لتفضيل تسوية جيدة على حرب سيئة". أوضح كاريه أن الديموقراطيات تدفع روح التسوية إلى حد بعيد لأنها تميل إلى اعتبار العنف أعظم شر.

لا يمكن للعنف أن يكون أكبر شر إلا إذا كان الخير الأساسي الذي تضمنه السياسة هو الحفاظ على الحياة في حد ذاتها، عوض مواصلة العيش بطريقة معينة تحدد مجتمع المرء، ومواجهة التهديدات لأسلوب العيش هذا من أعدائه. مع ذلك، فإن الفهم السائد في الاتحاد الأوروبي يتصور أن العمل السياسي، يشمل فقط تطبيق الأعراف الدولية والضرورات العالمية.

رائعون ومتهورون

بعدما شهد بداية تأسيس أوروبا الحالية، أعرب آرون عن قلقه في مرحلة مبكرة من تأثير السياسات الجديدة لحقوق الإنسان على العلاقة بين الانضباط المدني والديموقراطية، قائلاً: "تضع الأخلاق المدنية البقاء، وأمن المجتمع فوق كل اعتبار آخر. لكن إذا أصبحت الأخلاق الغربية، أخلاق المتعة، والسعادة الفردية، عوض الفضائل المدنية، فالبقاء عندها، موضع شك. إذا لم يتبق شيء من واجبات المواطن، وإذا لم يعد الأوروبيون يملكون الشعور بأن عليهم أن يكونوا جاهزين للقتال للحفاظ على فرصة التمتع بملذاتهم وسعادتهم، فعندها، بالفعل، نكون رائعين ومتهورين."

أوروبا والنزاع والسلام
بدا للاتحاد الأوروبي أن السلام هو النتيجة الحتمية للحوار العظيم ولمزيد من التبادل. حسب كاريه، توقف الأوروبيون عن فهم أن الرجال قد يسعون إلى أهداف لا يمكن التوفيق بينها، أو قد يفكرون أن العنف وسيلة شرعية لتأمين بعض أنواع المصالح. على العكس من ذلك، بدا النزاع لهم نتيجة أسباب عرضية، مثل مشكلة تنمية أو سوء تواصل يمكن تخطيه سريعاً. كانت العولمة اندماجاً أوروبياً بالمطلق. لطالما استندت النجاحات السياسية والاقتصادية لألمانيا، أقوى دولة أوروبية، إلى هذا الفهم للعولمة. إنه أحد الأسباب التي قد تجعل استيقاظ أوروبا من سباتها السياسي أمراً صعباً بشكل خاص". لكن المشكلة أعمق من ذلك وفق كاريه.

استبعاد الواقع لا يلغيه 
باستبعادهم السيادة من فهمهم للسياسة، جعل الأوروبيون الحرب أمراً لا يمكن التفكير فيه. لكن أمراً لا يمكن التفكير فيه لا يتوقف بالضرورة عن الوجود، إذ يتجلى حدثاً لا يمكن توقعه، حدث لا يمكن تخيل أنه سيكون نتيجة نية أحد. لن يكون الأوروبيون في وضع يسمح لهم بفهم الحرب، وبشكل أقل مواجهتها، طالما واصلوا النظر إلى الآخرين كما ينظرون إلى أنفسهم. بعدما ضعفوا مادياً ومعنوياً بفعل حربين عالميتين، خسرت أوروبا بشكل تدريجي الوسائل والرغبة في فرض سلطتها".
لم تندم أوروبا على هذه الخسارة بل اعتنقتها في العقود اللاحقة فضيلة وعلامة على التقدم. وظهر التطور الاقتصادي الأوروبي ليثبت أن لا أخلاق ولا جدوى من استخدام القوة العسكرية. واستنتجت أوروبا أن التنمية الاقتصادية ستنتج أيضاً تأثيرات مماثلة في كل مكان. لقد تشبثت بآمال انضمام الصين، وروسيا، وتركيا، بوتيرة كلاً منها، إلى مجتمع الدول الليبيرالية والاقتصادية مع اندماج اقتصاداتها بشكل أكبر في عالم معولم.

ترف المظلة الأمريكية
طيلة عقود، تابع كاريه، تمكن الأوروبيون من تجاهل التداعيات العملية لطبيعتهم المسالمة بفضل الحماية التي وفرتها الولايات المتحدة. للأفضل أو للأسوأ، ما بدأ في ولاية الرئيس السابق باراك أوباما مثل تحول خطابي في معظمه في انتباه واشنطن نحو الصين والهادئ أصبح واقعاً بموجب سياسة ترامب وبايدن.

يتعين على الحكومات الأوروبية الآن أن تتعامل مع هذه الحالة الجديدة من السياسات. لكن كيف يستيعد الأوروبيون الثقة في قدرتهم على بذل الجهد العسكري والتضحية؟

الجواب عند آرون
مجدداً، تقدم محاضرة ما قبل الحرب لآرون الجواب "الفارق الوحيد، وهو فارق مهم، أن في الديموقراطيات، على المرء الموافقة تلقائياً على الضرورات المفروضة في أماكن أخرى".

ربما جر بوتين دولته إلى الحرب دون دعم صريح من شعبه. كل ما يحتاجه هو جيش جاهز للتحرك بناء على كلمته. في حالة الأنظمة الديموقراطية، ليست القضية فقط التمتع بالوسائل المناسبة للتحرك، بل بإدراك المواطنين للظروف التي تجعل استخدامها ضرورياً وشرعياً.

مع ذلك، من الصعب على المجتمعات السياسية التي تُدين استخدام العنف منذ البداية تحديد الظروف التي قد تتطلب الدخول في نزاع، والمبادئ التي قد تبرره. ولذلك، سيحتاجون إلى استجواب أنفسهم، لا عن الحقوق التي يتشاركها الناس، والمصالح التي يتبعها الناس، كأفراد وحسب، بل عن الصالح العام الذي يحدد مساعي المجتمعات ويجعل المواطنين قادرين على تمييز وإنجاز واجباتهم. إن فهم هذا الصالح العام، هو فهم أنه لن يكون دوماً متوافقاً مع أنظمة أخرى.

قد ترفض أوروبا النقاش حول الأمر، لأنه يمنحها مسؤولية ممارسة العنف الذي ترفضه. لكن فعل ذلك لن يحميها من أي خطر، وفق كاريه. فانتظار ساكن لولادة أزمة خطيرة بما يكفي لتجبرها على الدفاع عن نفسها دون نقاش سابق، يترك لأعداء أوروبا فرصة اختيار الظروف الأكثر ملاءمة لهم. لذلك فإن إعادة تسلح أوروبا لا يمكن أن تأتي فقط من إدراك صناع القرار لضرورة تخصيص الموارد للقوات الأوروبية المسلحة، بل يجب أن تنبع من حوار جاد مع الناس وهو ما امتنع عنه حتى أكثر القادة السياسيين تبصراً.

واجبات النخب الأوروبية
المسؤولية الأولى للنخب الأوروبية الآن هي أن تصف لمواطني القارة بوضوح الوضع الذي يجدون أنفسهم فيه والمسؤوليات المترتبة على كل واحد منهم، إذا أرادوا الحفاظ على المجتمعات الحرة التي يعيشون فيها.

ولا يمكن تصور أنه بينما تزيد أوروبا ميزانياتها العسكرية، تواصل أيضاً الترويج دون أدنى شك لاندماجها في اقتصاد معولم كثيراً ما زود خصومها بوسائل قوتهم الجديدة.

من غير المسؤول التفكير في مكافحة للتغير المناخي تقنع الناس بإجراءات دون أي اعتبار لمسألة وضعها أوروبا في تبعية قوى معادية. والأعمق من ذلك أن نقاشاً مماثلاً يتطلب من أوروبا إصلاح طريقة تفكيرها من أجل الديموقراطية نفسها.

مخاطر شخصية
يجب أن تذكر احتمالات الحرب المتزايدة بأن المداولات الجماعية تمنح فرصة صياغة التزامات سياسية، وأن رفض هذه الالتزامات لتوسيع نطاق حقوق الإنسان لا يعفي أوروبا من عبء السياسة لكنه يعرضها لخطر تحويل مواطنيها إلى رعايا تحت إرادة أجنبية وعدوانية.

إن إطلاق مثل هذا النقاش داخل وخارج كل بلد على حد سواء، يأتي مع مخاطر شخصية كبيرة ويتطلب شجاعة من الذين يرغبون في تولي المهمة. من واجب الحكام إظهار قدرتهم على إطلاقه بصرف النظر عن سوء السمعة الذي انحدرت إليه لغة الفضيلة السياسية.

وفي نهاية المطاف، ما من منصة سياسية، مهما كانت تحررية، قادرة على الصمود في وجه هزيمة عسكرية.