شرطيان تركيان يعتقلان كردياً في اسطنبول (أرشيف)
شرطيان تركيان يعتقلان كردياً في اسطنبول (أرشيف)
الخميس 8 ديسمبر 2022 / 08:42

شعب الله المنحوس

جوان ديبو- العرب

عادة ما يلازم النحس الأفراد، لا الشعوب، وقد يعقب معايشة القليل أو الكثير من السعادة النسبية أو شبه المطلقة. لكن أن يصاحب ويطارد النحس شعبا بأكمله، كالكُرد مثلاً، فهذه ظاهرة شديدة الخصوصية والفرادة وتستأهل التفحص والمعاينة.

أكثر شعب، إن لم يكن الوحيد، الذي تنطبق عليه خاصية النحس المشؤومة هو الشعب الكردي. وكأن النحس بات سمة متأصلة في تاريخ وحاضر الكُرد، حتى يخيل للعارف أن الكُرد منحوسون بالفطرة والولادة من شدة ما تعرضوا ويتعرضون له من ويلات ومحن سواء من الآخر أو من الذوات الكردية المتناحرة.

وأشد أنماط النحس وطأة هو ذلك الذي يتحول إلى لعنة كلية دائمة الحضور وتلقائية التجدد، وتتجلى في نماذج شتى بحيث تقض المضاجع ليلا ونهارا ولا تبارح الأجواء ولو للحظة واحدة. وليس من قبيل المبالغة القول إذا كان للنحس أصل وملة، فحتما كان سينحدر من أصول كردية.

الكُرد شعب منحوس ومسكين، فالتاريخ يعاديهم والجغرافيا تعاديهم، والسياسة التي صنعت التاريخ ورسمت الجغرافيا وصاغها الأقوياء والمنتصرون، تعاديهم، والكُرد قبل هذا وذاك يعادون أنفسهم بأنفسهم. ولهذا فوطنهم كردستان "مستعمرة دولية" كما سماه عالم الاجتماع التركي إسماعيل بيشيكجي.

وليس للكُرد "أصدقاء سوى الجبال" كما ارتأى ذلك هارفي موريس وجون بولوك. وهم "أمة في شقاق" حسب جوناثان راندل. و"أمة غير مرئية" وفق كويل لورانس. و"يتامى المسلمين" حسب وصف فهمي الشناوي. ولقّهم الباحث الأرمني أبوفيان بـ"فرسان الشرق الذين يعادون بعضهم البعض".

وعُرف الكُرد طوال تاريخهم وحاضرهم بأنهم متفرقو الكلمة ولا وحدة تجمعهم، وامتازوا بسلامة الطوية إلى حد الغفلة والسذاجة أحيانا كثيرة.

دائما ما كان مصير تضحياتهم التبخر والاندثار على مذبح العقل الكردي ومصالح وألاعيب ودسائس الكبار الأقوياء. هذه الأيام تتجلى هذه الحقيقة المريرة في أبهى نسخها القذرة. فتركيا تقصف مناطقهم في كردستان العراق، وكردستان سوريا، وتهدد بشن غزو بري جديد لتحتل مناطق كردية جديدة في سوريا لتضيفها إلى المناطق التي احتلتها في 2018 و2019.

وإيران تقصف مناطقهم في كردستان العراق، وتهدد باجتياح الإقليم براً. والكُرد، بلا فخر، يتربعون على عرش الشقاق والتشرذم داخل كل جزء من أجزاء كردستان الأربعة، وبين الجزء والآخر، حتى أن إنجازاتهم التي اكتسبوها هنا وهناك بسبب الفرص النادرة التي سنحت لهم، هي الآن أكثر عرضة للضربات، وأحد الأسباب الرئيسية تكمن في تفرقتهم وتعاطيهم ما قبل البدائي مع السياسة. والأمريكان والروس لا يبالون بالبلطجة التركية والإيرانية ضد الكُرد وبالفظائع التي تقترفها الدولتان بحق المدنيين الأبرياء وممتلكاتهم.

كم أنت مسكين أيها الكردي مثل وطنك المتشظي. لا أحد يحبك في زمن لا يوجد فيه بالأساس حيز للحب، وأنت نفسك أيها الكردي لا تحب نفسك لا بل وتعاديها. الجميع يكرهك والجميع يتلاعب بك ويوظفك لتخدم أجنداته أكثر مما تخدم أجنداتك. والسبب لا يكمن فقط في قلة الخيارات المتاحة كما يطيب لك تأويل ذلك أيها الكردي، وإنما أيضا بسبب انحطاط وانهيار العقل النخبوي أو بالأحرى غيابه.

أحببت الجميع أيها الكردي ونسيت أن تحب نفسك. وخدمت الجميع أيها الكردي ونسيت أن تخدم نفسك.

كم أنت مسكين أيها الكردي. يكفي أن تكون كرديا طامحا لبعض أو للكثير من الحقوق حتى تُنبذ وتُكره وتُتهم وتُسجن وتُباد. حقك هو باطل في نظر الأقوياء، وقواميس الأقوياء هي فقط من يعرّف الحق والباطل كما هو على أرض الواقع، لا كما هو مرسوم في مخيلة الحالمين والطامحين اليتامى. وبالتالي الأقوياء فقط من يقررون من يستحق الحقوق ومن لا يستحقها.

كم أنت مسكين وساذج أيها الكردي. دافعت عن الإسلام أكثر من العرب والفرس والأتراك أنفسهم الذين شيدوا دولاً وإمبراطوريات مترامية الأطراف باسم الإسلام، ولم يعطوك سوى الفتات. أو بالأحرى أنت لم تدرك ولم تع ولم تشعر لتطالب لنفسك. وكانت المكافأة أنهم أرادوا أن يجردوك حتى من كرديتك، فوصفوك في تركيا بـ"أتراك الجبال"، وفي إيران الإسلامية بـ"أبناء الشيطان"، وفي سوريا الأسدية بـ"الأجانب والمتسللين"، وفي العراق البعثية بـ"العملاء والصهاينة". وصفوا طموحك في الاستقلال بـ"إسرائيل الثانية"، علما أنهم قبلوا بإسرائيل الأولى، ولو على مضض، بعد أن عجزوا عن إزالتها كما ضحكوا على شعوبهم.

كم أنت مسكين ومنحوس أيها الكردي، فتركيا الأردوغانية، كما قبلها، تركيا الكمالية، وإيران الخمينية كما قبلها إيران الشاهنشاهية لا تحتاج إلى ذرائع لمحاربتك داخل وخارج بلدانها. فيكفي أن تكون كردياً وتطالب بحقوقك كاملة أو ناقصة لتصبح متهما وينزل بحقك العقاب فتُقاتل وتُقتل وتحل عليك لعنات السلطان والإمام، وما أدراك ما هي لعنات السلطان والإمام.

لعنات السلطان والإمام عابرة للحدود والقارات وقودها التاريخ والحاضر والفوبيا الكردية. تاريخياً وحاضراً لم يقضّ أحد مضاجع تركيا أكثر من الكُرد. ثورات وانتفاضات وأحزاب وثوار ومناضلون سعوا إلى انتزاع الحقوق. جوبهت كافة تلك المساعي بالحديد والنار. ومجرد مجابهة سليلة الدولة العثمانية، تركيا، له أثمانه الباهظة والمكلفة على الكُرد أو المجابهين اليتامى.

داخل تركيا ترهيب واعتقال للمناضلين الكُرد وحظر لأحزابهم، وما وراء الحدود قصف، وقتل وتشريد للكُرد في كردستان العراق، وكردستان سوريا. وخارج تركيا ملاحقة المناضلين الكُرد واغتيالهم ومطالبة الدول بتسليم بعض رعاياها من اللاجئين الكُرد إلى أنقرة، وحتى مطالبة بعض الدول بإلغاء الحريات الثقافية الممنوحة للكُرد في الشتات، والمطالبة بإلغاء تدريس لغتهم.

فمجرد أن يطالب الكردي بجزء أو بكامل حقوقه، فهذا في حد ذاته يعتبر جريمة لا تغتفر في نظر حكام أنقرة المتعاقبين منذ 1923 ولغاية اليوم. هذا ما يبوح ويفور به التاريخان الحديث والمعاصر. ولا يحتاج المرء إلى جهود استثنائية وعبقرية فذة لاستجلاء هذه الحقيقة القبيحة.

كم أنت منحوس أيها الكردي، فأنت القاسم المشترك وربما الوحيد الذي يجتمع على التضاد منه أنقرة، وطهران، وبغداد، ودمشق وغيرها من العواصم من أجل لجم ووأد طموحاتك وأحلامك. حتى الديمقراطية وحقوق الإنسان اللتين يتباهى ويتشدق بهما الغرب، سقطتا في قعر العهر، والنفاق والمصالح. فها هي السويد، أيقونة الحرية والديمقراطية والسلام ترضخ لشروط السلطان العثماني الهائج وتسلم مناضليك إلى جلاديهم.

أي نحس أبدي وأي لعنة مزمنة موغلة في القدم تلاحقك أيها الكردي المنحوس والمسكين واليتيم، والأكثر إيلاماً للروح والجسد وإيغالاً في الجذور هي لعنتك أيها الكردي والتي صنعتها وتصنعها بنفسك لتؤذي بها نفسك، لعنة انحطاط وانهيار العقل التي تنتج على الدوام الشقاق والتشرذم والكراهية والتناحر.