السبت 10 ديسمبر 2022 / 18:56

المفكر التنويري د. صلاح فضل.. في وداع صديق

أن تفقد صديقاً يعني أن تفقد جزءاً من عمرك، من ذكرياتك، من أيام حياتك التي قضيتموها معاً، ذلك أن الصديق الحق هو الذي يبني له في موضع القلب بيتاً لا يدخله غيره، يغذيه كل يوم بحكايات ولقاءات واتصالات، فإذا غادر أخذ كل ما بنى معه.

كان د. صلاح فضل رحمه الله أكثر من صديق، فمنذ عرفته قبل سنوات طوال وهو بالنسبة لي مثال للأكاديمي الجاد، صاحب القضية والموقف، عاشق الشعر واللغة العربية، المشجع للأجيال الجديدة من المبدعين والباحثين. وحين وصلني خبر رحيله اليوم توالت على ذهني عشرات بل مئات المواقف التي جمعتنا معاً، في الإمارات والقاهرة وغيرها من عواصم العالم، نجتمع حول الشعر في كل مرة، أتذكر حكاياته، ومواقفه، ونكاته، وآراءه الجادة والقاطعة في الشعر والرواية والنقد والتراث واللغة، أتذكر موقفه الصارم من تيارات الإسلام الراديكالي، حيث كان يرى أن "خلط الدين بالسياسة هو إفساد للدين والسياسة"، وقد شنت عليه جماعة الإخوان الإرهابية حرباً بسبب مواقفه التنويرية ورفضه للدولة الدينية فهاجموه بعد مشاركته في لجنة وضع الدستور المصري 2012 حتى انسحب منها، وحاولوا عرقلة إصلاحاته في مجمع اللغة العربية.

كان رحمه الله نموذجاً للمثقف كما يجب أن يكون، الغارف من التراث والمنحاز للتجديد والتنوير، بل يمكن القول إن به شيئاً من روح مصر التي نعرفها، بتنوعها الفكري والثقافي، فقد نشأ ـ كما حكى لي أكثر من مرة ـ في بيت أزهري، وتلقى تعليمه في المعاهد الأزهرية، وتفتح وعيه على مكتبة منزلية مليئة بأمهات الكتاب، فقرأ أول ما قرأ مجلة الرسالة التي رأس تحريرها الأديب المصري الراحل حسن الزيات، ثم خاض التجربة نفسها التي خاضها قبله رفاعة الطهطاوي، ود. طه حسين، فمن التعليم الأزهري اتجه إلى إسبانياً في بعثة للدراسات العليا بإسبانيا، ليحصل على الدكتوراه في الآداب من جامعة مدريد المركزية ويعمل مدرساً للأدب العربي والترجمة بكلية الفلسفة والآداب هناك، ويتعاقد مع المجلس الأعلى للبحث العلمي في إسبانيا للإسهام على إحياء تراث ابن رشد الفلسفي ونشره.

أثرت تلك الفترة التي قضاها رحمه الله في إسبانيا، ثم أثناء عمله بعد ذلك أستاذاً زائراً بكلية المكسيك للدراسات العليا، في انفتاح رؤيته على الآخر، وشكل امتزاج الثقافتين العربية والأوروبية أفقاً معرفياً لمفهوم الناقد لديه غير المفهوم التقليدي لدى معظم النقاد العرب، كما أن هذا التضافر المعرفي فعل به ما فعله من قبل في طه حسين والطهطاوي، من إدراك لأهمية التواصل مع الحضارات الأخرى وعدم الانغلاق الثقافي والتقوقع على الذات، وكثيراً ما حضر هذا الخطاب في مقالاته وكتبه ومحاضراته الجامعية وحتى في نقاشاتنا الكثيرة.

ولا شك أن الإنجاز الثقافي لصلاح فضل كبير، ويحتاج إلى أن تقوم المؤسسات المسؤولة بجمعه، حيث يتعدد ما تركه بين مؤلفات نقدية وترجمات وأوراق بحثية ومقالات نقدية، كما كانت له مساهماته شديدة الأهمية حين عمل رئيساً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ودور لا يُنكر في الحفاظ على اللغة وتيسيرها وتطوير قواعدها وتوسيع كفاءتها لاستيعاب مستحدثات التطور من الآداب والفنون.

ولا أنسى عشرة أعوام تشاركنا فيها العمل في لجنة التحكيم ببرنامج "أمير الشعراء"، ومواقفه الواضحة المنحازة للشعرية الحقة، لم نكن مجرد زميلي عمل في البرنامج أو في "مركز أبوظبي للغة العربية" الذي كان عضواً في لجنته العلمية، بل كنا صديقين، زارني في بيتي كثيراً، ولم أكن أفوّت مرة أزور فيها القاهرة إلا وأسعد بلقياه. ورغم مرضه استقبلني هذا العام أكثر من مرة، حين شارك في الخلوة الثقافية التي نظمها المركز بمناسبة اختيار د. طه حسين الشخصية المحورية لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، ومرة حين دعاني بصحبة معالي محمد المر رئيس مجلس إدارة مؤسسة مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم وعبد الله ماجد آل علي مدير عام الأرشيف والمكتبة الوطنية لزيارته في مجمع اللغة العربية، وأخذنا في جولة تاريخية في ذلك المبنى الأثري على النيل، وأطلعنا على الجهود التي يبذلها بصدق وحماس لاستعادة دور المجمع التاريخي، وآخر مرة كانت قبل نحو شهرين، حين استضافني في بيته، بل وحرص ـ رغم مرضه ـ أن يشارك في برنامج "رموز الإبداع" الذي استضافني على قناة النيل الثقافية.

لم أكن أعرف أن ذلك هو اللقاء الأخير بيننا، فقد كان كما عهدته دائماً، رغم مرضه، حاضر الذهن مقبلاً على الحياة منحازاً لقضاياه، مهموماً بالشعر وباللغة العربية، حريصاً على إبراز محبته وجوده.

كان محباً لدولة الإمارات، شديد الإعجاب بمشروعها النهضوي لاستئناف الحضارة، وفي كل مرة التقينا كان يثني على دور أبوظبي الثقافي الكبير الذي يرى أنه يجب أن يكون نموذجاً يُحتذى في العديد من الدول.

مع رحيل الصديق العزيز الناقد الكبير د. صلاح فضل، أستحضر المتنبي، الذي طالما تناقشنا حوله، واختلفنا واتفقنا، وقرأنا قصائده واحدة تلو الأخرى بحثاً عن معنى أو تأكيداً لفكرة، أستحضر قوله:

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا

ربما رحل د. صلاح فضل اليوم بجسده عن دنيانا، لكن باق بإرثه النقدي والثقافي، باق بما علّمه لتلاميذه، باق بما تركه من علم في عشرات الكتب، باق بمحبته التي زرعها في قلوب من عرفوه إنساناً وصديقاً لا يكرره الزمان كثيراً.