الإثنين 2 يناير 2023 / 16:09

مهارة الكتابة نافذة لتعلم اللغة العربية

تتعدَّد أفرع مادة اللغة العربية في التعليم ما قبل الجامعي، وتتشعب إلى النصوص الأدبية، والقواعد النحوية، والقراءة، والقصة الأدبية، والإملاء، والتعبير بنوعيه الوظيفي والإبداعي، بمعنى أن كل ما يدرسه الطالب في تخصصات اللغة العربية يصب، أو هكذا ينبغي، في تكوين حصيلة لغوية وفكرية تساعده في الكتابة التعبيرية والتحدث بطلاقة.

من جهة أخرى، حذر تربويون من تراجع وضعف اللغة العربية بين الشباب وطلبة المدارس، وابتعادهم عن التواصل بها، فاللغة للإنسان هي فِكره ولسانه، كما أنها انتماؤه، وانصرافه عنها هو انصراف هذا الانتماء إلى فضاء آخر.

حتماً تعتبر الكتابة رياضة ذهنية ومعرفية وفكرية، قبل أن تكون المتنفس الوحيد للمبدع، فهي تساعد على اكتساب مقومات داخلية ناضجة وإنسانية ملهمة للضمائر الحية، كما تساعد على مواجهة إخفاقات الحياة، وممارستها تخفض الإحساس بالتوتر لقدرتها على تطهير الذات من الأحزان والاكتئاب.

والكتابة الجيدة هي جزء من روح صاحبها، جزء من إنسانيته، بصفتها وسيلة وجودية لتحقيق الذات، وهناك فعل آخر للكتابة غير الأدبية والإبداعية، تمنح الكتابة، الإنسان الأدوات اللازمة لاكتشاف صوته، وتطوير أسلوبه، والتعبير عن أفكارنا ومشاعرنا بطريقة صحيحة، ما يجعلنا نفكر بطريقة عميقة ولها معنى كبير، كما تؤثر في نظرتنا للمستقبل.

ولكن المؤسف أن المدرسة في نظامها الحالي لم تُوفق في جعل الكتابة مادة يهتم بها الطلاب داخل المنهاج، ما أدى إلى ضعف الثقافة اللغوية والتعبيرية اللتين تمدان الإنسان بما يلزمه من لوازم الحيوية والتجدد الفكري.

الحرية الفكرية أو القدرة على التفكير الناقد مهارة نابعة عن الموهبة الإنسانية التي تُتيح لصاحبها التفكير في القضايا المختلفة، وتحليلها بعمق، ولا يُوجد فرق بين التفكير الناقد والكتابة، لأن هذه الموهبة تنضوي تحتها القدرة على الطلاقة الفكرية واللفظية والتعبيرية، وتعني استدعاء أكبر عدد من الأفكار أو الجمل أو الكلمات، من أجل التعبير عن الأفكار والمشاعر. ولصياغة الاتزان العاطفي والعقلي حيث التكامل الإنساني رهين بها.

أزعم أن اللغة العربية ليست صعبة، لكن المعضلة، في رأيي، هي أننا لم نجعلها محلاً للافتتان والشغف الخالص للأجيال، وذلك بسبب التغافل عن أهم مهارة لغوية، وهي مهارة الكتابة التعبيرية الفعالة منذ سنوات التعليم الأولى، ما خلق جيلاً من الطلبة يعاني تراجعاً لغوياً وضعفاً حاداً في اكتساب المهارات اللغوية الأربع، وأعني بها القراءة، والكتابة، والتحدث، والاستماع، فما تنتجه المدارس يظهر جلياً في أروقة الجامعات، وهو ناقوس الخطر الذي يجب أن ينبهنا إلى أننا أمام أزمة تعليم مؤلمة.

إن الكتابة سلاح لمن لا سلاح له، فهي تتسم بأنها أكثر المهارات التي تدعم الشخصية السوية، وتعمل على تعزيز الثقة بالنفس واحترام الذات، وتكسب أصحابها القدرة على النقاش بالحجة البالغة، كما أنها تصنع قارئاً جيداً مستعداً للتذوق.

والعاملون في الحقل التربوي يلحظون ما يعانيه المتعلمون في مختلف المراحل التعليمية من تدنٍّ واضح في مستوى الكتابة، فمنهم من لا يستطيع كتابة سطر واحد باللغة العربية دون أخطاء‏، ولن أكون مبالغة، أن بعض الطلاب يخطئون في كتابة أسمائهم، فضلاً عن رداءة خطوطهم..

لا بد أن نفتح الأبواب للاهتمام بمهارة الكتابة، ولكن بما يناسب إيقاع عصر السرعة، ونحيا ضمن فضاء مفتوح وعالم سريع الحركة، لأن السهولة في التواصل خلقت معايير جديدة تحكم المشهد العام وتسيطر عليه، ولا بد أن تكون النصوص التعبيرية في المناهج التعليمية احترافية وسهلة، ليفهمها الجميع، دون أي تقعر أو مجافاة للذوق اللغوي العام. ولا بد كذلك من الاستثمار في تنمية بذرة الإبداع لمن يملكها، ومحاولة الإكثار من المناشط اللغوية الحيوية، واستخدام التقنية الحديثة في تطوير تعليم اللغة وتعلمها.

ولا بد أن نعترف أن هناك ضعفاً في الأداء اللغوي للطلاب، وشيوعاً فجاً للأخطاء اللُّغوية والنحوية والإملائية، ما اضطرهم إلى الهروب إلى العامية وخلق ما يسمى بازدواجية اللغة، وكلها حزمة من المعضلات بحاجة ماسة إلى تخفيف تبعاتها وتداعياتها، ولن يكون ذلك دون أن نصنع مشروعاً كبيراً للنهوض بالكتابة التعبيرية وعصرنتها، بمعنى آخر لا بد من إعادة النظر في أساليب تدريس اللغة العربية بالاهتمام بالثقافة اللغوية، وقبل كل هذا لا بد أن نعلمهم معنى الولاء للعربية الفصحى، حتى لا تفقد الأجيال القادمة هذا الانتماء للهوية.

إن قليلاً من النظر يكشف أن اللغة العربية هي أقل اللغات فاعلية وحيوية ومرونة، وأنها تستخدم فقط على نطاق علمي وأكاديمي متخصص واسع في الجامعات، ووسائل الإعلام، والمنصات، والمؤتمرات، والخطابات الرسمية فحسب، دون أن تتغلغل في الحياة اليومية، لأهلها الناطقين بها.

كل هذا يجعل الحاجة ماسة إلى نظريات تربوية حديثة، تُعنى بصقل مهارات الكتابة عند الناشئة من الشباب وتطويرها، وذلك بإعداد مناهج تربوية للغة العربية تعالج أولاً مثل هذا الضعف في الكتابة التعبيرية، بل سيساهم هذا المدخل في حل الكثير من المعضلات التعليمية الأخرى.

ونحن أمام حقيقة لا شك فيها، وهي أن المؤسسات الثقافية والتعليمية في كل المجتمعات لا تستطيع إنتاج مفكر أو فنان أو شاعر، ولكنها تستطيع بما تصنعه من تشريعات وخطط أن تخلق المناخ الملائم لتألق الطاقات الشابة ونموها، وهذا ما يصنع تمايز المجتمعات في مستويات التقدم والرقي والتطور المنشود.