مختبر للعلوم في كامبريدج. (أف ب)
مختبر للعلوم في كامبريدج. (أف ب)
الجمعة 27 يناير 2023 / 16:02

التسريح في قطاع التكنولوجيا.. أسباب أبعد من الاقتصاد

24- طارق العليان

تتزايد التقاريرعن عمليات تسريح كثيرة في صناعة التكنولوجيا. وتُعزى تلك الحالات نوعاً ما إلى الظروف الاقتصادية بطبيعة الحال، غير أن هذه التقارير تغض الطرف عن النضج في صناعة التكنولوجيا.

أمست السوق مُتْخَمة على نحوٍ متزايد. ولم تُقدِّم الإصدارات الجديدة من المنتجات الأقدم قُدرات مرغوباً فيها بشكلٍ جذريّ، وإنما مجرد تحسينات طفيفة

والنضج يعني أمرين، وفق المحلل السياسي الأمريكي جورج فريدمان في تحليل بموقع "جيوبولتيكال فيوتشرز"؛ ألا وهما أن معدل الابتكار الأصيل تراجع عموماً، وأن الصناعة يبدو أنها قدمت أولوية الحاجة إلى إضفاء الطابع الإنتاجي على الحاجة إلى الكشف عن الإمكانات التقنية الجديدة.

في مرحلةٍ ما، أمسى تصور منتجات جديدة تعتمد على الرقائق الفائقة الصغر والتي لا يمكن إنكار أهميتها أمراً صعباً.
وبشكلٍ أكثر تحديداً، أمست السوق مُتْخَمة على نحو متزايد. ولم تُقدِّم الإصدارات الجديدة من المنتجات الأقدم قُدرات مرغوباً فيها بشكل جذري، وإنما مجرد تحسينات طفيفة لمنتجات عظيمة الفائدة. وأحياناً كنا نشهد تغيراً من أجل التغيُّر وحسب.

التكنولوجيا في أعين المهووسيين بها

كانت التكنولوجيا بصدد بلوغ الحدود التقنية في بعض الأحيان في أعين المهووسين بالتكنولوجيا، وباتت تغرس بداخلهم الرغبة الملحّة في امتلاك إصدارات جديدة.


كانت هذه الدورة راسخة في الرأسمالية الصناعية. فقد بُنيت السيارات استناداً إلى فكرة محرك الاحتراق الداخلي، وغَيَّرَ تصنيعها على مستوى جماهيري العالَم تغييراً جوهريّاً. وطرأ تحوُّل ثوريّ على نمط استخدام الأراضي، وإمكانات تحديد مواقع المنازل، وثقافة الحضارة نفسها ومعنى المسافة. وبدَّل محرك الاحتراق الداخلي إنتاج السلع وتوزيعها والعلاقات الإنسانية ذاتها. ولقد أمسى أيضاً رمزاً للمكانة الاجتماعية. واكتسبت علامات تجارية مختلفة، ابتُكِرَت في الأصل اعتماداً على تلك التقنية ذاتها، هويَّة جديدة وأحياناً ما حدَّدتها.

ولقد تعلّمت صناعة السيارات كيف تُسوِّق منتجاتها، وكيف تُشجِّع عموم الناس على شراء سيارة جديدة. وتميَّزَ كل نموذج جديد غالباً بتحسينات أكبر. ودفعت ناقلات السرعات الأوتوماتيكية والمكابح الكهربائية ومسّاحات الزجاج الأمامي وما شابه ذلك من ميزات، عجلة هذه الصناعة، وكان معدل دوران السيارات مُذهلاً. وأضحى للعرض السنوي للنماذج الجديدة فاعلية بالغة الأهمية، حتى بينما أمست مقايضة سيارتك القديمة البالغة من العُمر عاماً واحداً بأخرى جديدة مسألة صعبة.

وفي ستينيات القرن العشرين، يقول فرديمان، أصبح من الصعب تدريجياً أن نُفكر في الابتكارات التي تُجبر العملاء على مُقايضة سياراتهم المُستعملة بأخرى جديدة، إذ بدأت المكانة الاجتماعية بوصفها ميزة هامشية مُكتسبة من امتلاك سيارة، في التراجع والانحسار.

وبحلول السبعينيات، كانت صناعة السيارات تترنح مالياً، وبعد أن كان العاملون في هذه الصناعة يُخيل إليهم أنهم ضمنوا وظائف تمتد مدى الحياة في فترة من الفترات، صُدموا، إذ شهدوا سلسلة من عمليات تسريح العمالة بعد 50 سنة فقط من تغيير السيارة وجه العالم كله.

ولما كان مصممو السيارات يستميتون لابتكار شيء جديد، فإما صنَّع مصنعو السيارات سيارات بوسعها الطيران، أو باعوا سيارات يمكنها أيضاً أن تعمل عمل الزوارق. لكنّ الذي بيعَ منها لم يُحْدِث سوى تغييرات طفيفة على سلعة تُشترى عند الضرورة.

الحد الأقصى لسرعة الابتكار
لقد كانت المشكلة تكمن، برأي فريدمان، في أن السيارة بلغت حداً أقصى، لا من حيث الابتكار، ولكن من حيث سرعة الابتكار التي كانت تدفع عجلة الطلب. فقد أمست وسيلة راحة، لا إشباعاً لحلم أو علامة على التطور والرقي. وهذا هو ما يحدث في صناعة التكنولوجيا الآن.

يقول فريدمان: تحطم هاتفي الخلوي مؤخراً فذهبت لأشتري آخرَ جديداً. وجدت الهاتف الجديد يُوفِّر ابتكارات جديدة لم أكن بحاجة إليها، ناهيكَ عن فهمها أصلاً. لقد كنت في مرحلةٍ من حياتي مهووساً بالحوسبة. والآن، بعد أن ارتفعت الأسعار وتراجعت سهولة الاستخدام، أمسيت أشتاق لهاتفي من نوع بلاكبيري.

ويضيف "لا أعني بذلك أن الابتكارات ليست حقيقة؛ كل ما في الأمر أن المنتجات الآن في أغلبها تأتي بألوانٍ مختلفة، ويبيعها مندوب مبيعات بالضبط كما بيعت سيارتي طراز بليموث القديمة. لقد خلق الابتكار مستوى من التعقيد ثبَّطَ الدافع لاستبدال الهاتف".

وتابع "بشّر الابتكار المذهل للكهرباء في أواخر القرن التاسع عشر الذي غيَّرَ التجربة البشرية بأسرها بقصص السيارات والهواتف الخلوية. فقد عُدَّت في البداية تقنية غير ذات أهمية. وبعد ذلك عُدَّت بشارة بنهاية التاريخ. وأخيراً جعلها نجاحها روتينية ومُبتذلة".

اقتصاد الرقائق متناهية الصغر
وختم "بوسعي أن أتحدث عن المحرك البخاري والسكك الحديدية اللذين كانا حدثين تاريخيين لم يفارقانا قط، لكنهما لم يرجعا إلى الطابع الرومانسي الذي انطبعا به أيضاً. فقد كانت كل تقنية منهما جزءاً من خَلْق دورة جيوسياسية. وكما ذكرت في موضعٍ آخر، سيأتي زمان وتحل محل اقتصاد التقنية العالية (الذي أُفضِّل أن أُطلق عليه اسم اقتصاد الرقائق المتناهية الصغر) أشياء أخرى، وفي تلك المرحلة سيضحك أبناء أحفادي على فكرة أن الكمبيوتر الشخصي كان أحدث تقنية لدينا".