مناورات عسكرية بين روسيا وإفريقيا الجنوبية.(أرشيف)
مناورات عسكرية بين روسيا وإفريقيا الجنوبية.(أرشيف)
الخميس 2 فبراير 2023 / 14:53

لماذا تبحث روسيا عن حلفاء في جنوب القارة الأفريقية؟

24- طارق العليان

قد لا تبدو دولة نائية وغير عابئة مثل جنوب أفريقيا حليفاً نموذجيّاً لبلدان أقوى. ولكن هناك دليل على أنّ هذا هو تحديداً ما تنويه روسيا.

موسكو ستواجه منافسة حامية هناك. فالصين تُعزز نفوذها في جنوب إفريقيا

في الأسبوع الماضي، التقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا ووزير الخارجية ناليدي باندور، لبحث العلاقات الثنائية بين البلدين.

وتزامنت هذه الزيارة مع التقارب العسكري بين البلدين. ففي فبراير (شباط)، من المُقرر إقامة مناورات عسكرية تُشارك فيها روسيا وجنوب إفريقيا والصين على مقربةٍ من قناة موزمبيق.

ولا شك في أن المصاعب الجغرافية واللوجستية ستُقيِّد مدى التعاون بين البلدين. لكن الأطراف المعنية، كالولايات المتحدة التي تعرف أنّ روسيا لديها مجال لتعزيز موقفها، تأخذ التعاون البعيد بين البلدين على محمل الجد، وذلك وفق تحليل إيكاترينا زولوتوفا، المحللة المختصة بالمستقبليات الجيوسياسية، بموقع "جيوبولتيكال فيوتشرز" البحثي الأمريكي.

الالتفات إلى الجنوب
وأشارت الكاتبة إلى أن جنوب إفريقيا سعت إلى البقاء على مسافة متساوية من فريقي الصراع الأوكراني- الروسي، إذ رفضت مثلاً الانضمام إلى منظومة العقوبات المفروضة على موسكو. وأفاد وزير الدفاع الجنوب إفريقي بأن الحملة الأمريكية ضد روسيا تمثل ضغوطاً على العديد من البلدان الإفريقية التي تربطها علاقات بموسكو.

ولفتت الباحثة المختصة بالشأن الروسي إلى أنه بالنسبة لروسيا، كان هذا وحده أساساً كافياً للتعاون بين البلدين، غير أن روسيا لديها أسباب أخرى لتعزيز العلاقات مع الدولة الإفريقية. فقد أجبرت منظومة العقوبات موسكو على أن تبحث عن حلفاء جدد، خاصّةً في الشرق، وعلى نحوٍ مُتزايد في نصف الكرة الأرضية الجنوبيّ.

ويبدو هذا أشبه باتفاق عملي. فروسيا بحاجةٍ إلى إبقاء صادراتها عالية، ولا سيما بالتزامن مع استمرار الحرب الأوكرانيّة. فقد دمَّرَت الحرب وما تبعها من عقوبات الاقتصاد الروسي بلا أدنى شك، لكنها خَلَقَت أيضاً صعوبات لوجستية وتسببت بتهديد وتقويض التجارة الروسية بأكملها، مما ساقَ روسيا إلى أسواقٍ مثل جنوب إفريقيا التي تلتزم عموماً بسياسة الحياد.

فضلاً عن ذلك، تحتاج روسيا إلى أن تثبت أن الحرب لم تضر بمكانتها الدولية مع بقية دول العالم.

في الحقبة السوفيتية، كان لروسيا نفوذ قوي إلى حدٍ ما في إفريقيا، إذ قدَّمَت دعماً لحلفائها هناك بإمدادهم بمساعدات عسكرية-فنية ومادية ودبلوماسية لمنظمات وحركات التحرير الوطنية التي تُقاوم النظم المُحتلّة، ومن بين تلك الدول جنوب إفريقيا.

وعندما تداعى الاتحاد السوفيتي وتفكك، انشغلت موسكو أكثر بشؤونها الداخلية من أن تُحافظ على أي وجود قوي بعيد عنها جغرافيّاً هكذا. ولا تريد موسكو أن تقترف الخطأ نفسه الآن. فليس بوسعها أن تتحمل مغبة النظر إليها بوصفها كياناً وحيداً في منطقة تَعِد بالكثير من الفرص الاقتصادية. فهذه المنطقة تحتوي على نحو 30% من إجمالي الاحتياطات العالمية من المعادن، و40% من ذهب العالم، و90% بحدٍ أقصى من الكروم والبلاتين، وكذلك الاحتياطات الأكبر في العالم من الكوبلت والألماس واليورانيوم.

ومن الناحية الجيوسياسية، تُعدُّ قارة إفريقيا مانعاً طبيعياً بين المنطقتين الأوروبية-الأطلسية والهندية-الباسيفيكيّة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، كثيراً ما يُشار إليها بالبوابات الجنوبية للتجارة الأوروبية المهمة تحديداً للبلد الذي ما برح يُعوِّل على الآخرين في سد احتياجاته من التقنية العالية.
وخلاصة القول، الوضع القوي في إفريقيا يمنح صاحبه ميزة عظيمة جداً.

منافسة حامية الوطيس
لكنّ موسكو ستواجه منافسة حامية هناك. فالصين تُعزز نفوذها في جنوب إفريقيا بالتعاون في مجالات التجارة والاستثمار والطاقة.

وحقيقة الأمر، تُهيمن الصين على رُبع تجارة جنوب إفريقيا. هذه التطورات ليست خفية على واشنطن التي استضافت قمة أمريكية- إفريقية لثلاثة أيام في نهاية عام 2022 حضرتها وفود من 49 دولة إفريقية، وكذلك ممثلون من الاتحاد الإفريقي. (وكانت هذه هي القمة الأولى من نوعها منذ عقد كامل، ورغم أن الرئيس الجنوب إفريقي لم يحضرها، فقد زارَ واشنطن في سبتمبر (أيلول).

وفي تلك الأثناء، سافرَ جوزيب بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، إلى بريتوريا للمشاركة في الاجتماع الخامس عشر للحوار الوزاري للاتحاد الأوروبي وجنوب إفريقيا. وخلال رحلته، قال إن بروكسل لديها نية صريحة لإقامة علاقات جديدة مع جنوب إفريقيا وغيرها من البلدان الإفريقية.

خطوة أبعد من اللازم؟
جدير بالذكر أنّ جنوب إفريقيا بالغة الأهمية تحديداً لروسيا. فموقعها الجغرافي بين المحيطين الهندي والأطلسي يمنحها القدرة على الوصول إلى المحيطين وممراتهما البحرية كلها. وبعد أن أعادت روسيا تخطيط سياساتها اللوجستية ومسارات تجارتها بسبب العقوبات الغربية، ربما كانت تبحث عن مسارات جديدة يمكن أن تكفلها لها جنوب إفريقيا.

فضلاً عن ذلك، تُعدُّ جنوب إفريقيا أكثر دول القارة تطوراً من الناحية الاقتصادية، مما يُبسِّط وُيعجِّل مزاولة الأعمال والتجارة، ويخلق مجالاً كبيراً لمزيدٍ من التعاون.

وترى موسكو أن جنوب إفريقيا أكثر استقراراً، ومن ثم أكثر قدرة على الوفاء بالتزاماتها، من أي دولة أخرى في إفريقيا. وهذا أمر بالغ الأهمية لدولة تفقد القدرة على الوصول إلى العملات الأجنبية.

وجنوب إفريقيا أيضاً عضو في مجموعة "بريكس" التي تتيح مجالاً للتعاون المحتمل بسرعة مع الأسواق النامية التي لديها خطط لسك عملة جديدة خاصة بها.

وأخيراً، رغم أن العلاقات التجارية الثنائية قوية بين البلدين، ما زال هناك مجال للتحسين. وتمثل جنوب إفريقيا نحو 30% من جميع الواردات الروسية من القارة السمراء، وواردات المنغنيز والبلاتين والحمضيات والفاكهة الطازجة تزداد.

جدير بالذكر أن حجم صادرات روسيا إلى المنطقة أكثر تواضعاً، فقد وُجِدَ أنّ نحو 2.3% من جميع الصادرات الروسية إلى إفريقيا تصبُّ في جنوب إفريقيا، رغم أن روسيا تمدُّ جنوب إفريقيا بنحو رُبع وارداتها من القمح. وقد ظلّت التجارة الثنائية بين البلدين تنمو رغم الجائحة والعقوبات الغربية، إذ زاد حجم التبادلات التجارية في عام 2022 بنسبة 15% مقارنةً بالعام الماضي.

الاستثمار والتنمية
لكنّ روسيا تؤدي دوراً في القارة الإفريقية يتجاوز التجارة. فقد دخلت روسيا إفريقيا بشركاتها المتأهبة للاستثمار في التنمية وسلاسل الإمداد والمشروعات المُشتركة.

وجاءت روسيا إلى جنوب إفريقيا مثلاً، إذ افتتحت مركزاً لنظام الملاحة العالمية بالأقمار الصناعية (غلوناس) ومصنعاً لشركة ترانس ماش القابضة (تحت مظلة العلامة التجارية TMH Africa)، واستحوذت على مشروعات جاهزة. وتملك مجموعة رينوفا الروسية أيضاً حصةً في شركة "يونايتد منغنيز كالاهاري" المتخصصة في التعدين.

ولا يُغير أي مما سلف حقيقة أن روسيا وجنوب إفريقيا يمكنهما التعاون بدرجةٍ محددة، وفق الكاتبة، مشيرةً إلى أن هناك تكامل لائق بين اقتصادي البلدين، غير أن انعدام السفن الضرورية لنقل السلع، وقصور الرحلات المنتظمة يُصعِّبان زيادة حجم التجارة بقدرٍ أكبر. وتوظِّف روسيا الآلية ذاتها تقريباً في دول إفريقية أخرى، إذ تنطوي على إمدادها بالقمح والطاقة والمخصبات والمشاركة في مشروعات مثيلة. وكثير من الاستثمارات الجوهرية والدعم الذي تقدمه روسيا نظري أكثر منه واقعي.

وينذر ذلك بصعوبة خلق أدوات وآليات جديدة خارج نطاق الغرب الذي عقَّدَت عقوباته إلى حدٍ كبير سلاسل الإمداد والخدمات المالية.

وقد أثارت أيضاً سؤالاً يتعلق بقدرة روسيا من عدمها على تحويل تفاهماتها السياسية مع جنوب إفريقيا إلى خطوات عملية حقيقية على أرض الواقع، ولا سيما بالتزامن مع امتلاك كيانات ودول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين الآن لميزات تنافسية مثيلة.

وأوحت الباحثة أنه نظراً للضغوط التي تتعرض لها روسيا وعُزْلتها، ليس بوسعها أن تتجاهل الشراكات الجديدة المرتقبة، مهما كانت بطيئة أو صعبة. ستلوح في أفق موسكو فرصتان العام الجاري لإثبات جدوى إقامة شراكة معها، إحداهما في قمة "بريكس" التي ستُقام في يوليو "تموز" في سانت بطرسبرغ، والأخرى في قمة روسيا-إفريقيا التي من المتوقع أن تناقش فيها روسيا التعاون التجاري. قد لا تنجح روسيا في هذا المسعى، لكن عليها أن تحاول.