الإثنين 20 مارس 2023 / 19:47

الناقد عبد الله الغذامي لـ 24: التفاعلية المباشرة هي الأصل الثقافي للبشرية

24 – حوار: نجاة الفارس

أكد الناقد القدير الدكتور عبد الله الغذامي، أن التفاعلية المباشرة هي الأصل الثقافي للبشرية منذ زمن الشفاهية، وأن قصيدة النثر تمثل أخطر التحديات الإبداعية لأنها تعري العاجز، وتمتحن مهارات المبدع القادر.

قصيدة النثر أخطر التحديات الإبداعية لأنها تعري العاجز وتمتحن مهارات المبدع

النقد الأدبي يبحث في الجمالي بينما النقد الثقافي يبحث في النسقي

أصدرت 3 كتب نتيجة لوجودي على تويتر

وذكر أن النقد الأدبي يبحث في الجمالي، بينما النقد الثقافي يبحث في النسقي، وقد وقف على المتنبي وأبي تمام قديماً ونزار قباني وأدونيس حديثاً، حيث أنهم جميعاً شعراء كبار لهم أثرهم العميق في الوجدان وفي العقل العربي معاً.
وأضاف في حوار لـ 24 أن النقد تحول عنده من شغف بالجمالي إلى قلق معرفي عن مضمرات النصوص، وهذا دفعه للنقد الثقافي والبحث في الأنساق الثقافية المخبوءة تحت جماليات اللغة، موضحا "أننا نقول بالتعددية ونمارس التمييز في الوقت ذاته ومن الشخص ذاته، وهذا ازدواج ذهني ثقافي يكشف دور النسق المضمر في تشكيل الوعي ورسم شروطه وفق معان تبنيها الذهنية المتوارثة".
    وأوضح أن الزمن الآن هو ما بعد الحداثة، ويحتاج للغة تواصلية وتفاعلية تمتلك شروط التوصيل والدقة والمباشرة، قائلا " أصدرت 3 كتب نتيجة لوجودي على تويتر، ونيتي كانت مذ دخلت لتويتر، نية بحثية، والتواصل في تويتر حسب خطتي، تواصل جوهره علمي ومعرفي، ونشر للفكر والمعرفة، وقد نفعني في توصيل أفكاري، والترويج لكتبي ولمقالاتي".

وفيما يلي نص الحوار: 



البحث الفلسفي

 _ ما الذي حفّز الناقد الدكتور عبد الله الغذامي للبحث في علم الفلسفة الشائك والمتشعب ومن ثم إصدار "مآلات الفلسفة من الفلسفة إلى النظرية" وهل حقاً نحن بحاجة إلى فلسفة بروح العصر؟
   المعرفة مشاغبة، وهذه حال عشتها مذ مطالع حياتي، في  الشغب المدرسي والفكري وتواتر الأسئلة على ذهني كما يحدث عموماً في حياتنا وسنيننا المبكرة ومنها الأسئلة الوجودية، وكأني قد حاولت الهرب من الأسئلة الحرجة وانشغلت بالمعرفة النقدية الأدبية ولكن الأسئلة المعرفية لم تتركني وقد ذكرت حادثةً حصلت في الشهر الأول من بعثتي  ١٩٧١إلى بريطانيا حيث وقعت مصادفةً في حوار مع مجموعة طلاب وطالبات من السويد، وكان ذلك عن الكون وهل له من خالق وكان الطلبة ملحدين، واحتد النقاش ولم ينته لأي نتيجة سوى زيادة الحيرة والأسئلة، وظل الشغب المعرفي  معي عبر ولعي بالشعر كتابةً ولكن تكشف لي في وقت مبكر أني لست شاعراً وأن مهاراتي نقدية غير أن النقد أيضا تحول عندي من شغف بالجمالي إلى قلق معرفي عن مضمرات النصوص، وهذا دفعني للنقد الثقافي والبحث في الأنساق الثقافية المخبوءة تحت جماليات اللغة، وفي الوقت ذاته ظل السؤال الوجودي يلاحقني كمشروع معرفي وهنا اتجهت للتساؤل عن العقل ذاته بوصفه الأداة التي يعول عليها البشر لامتحان إيمانهم أو إلحادهم أو حتى ذوقهم، وهنا شرعت في نقد العقلانية بسؤال عن غير المعقول من تحت المعقول، وهل العقل حقاً هو ما يحسم سؤال الإيمان أو سؤال الإلحاد ومن هنا جاء السؤال المركزي كيف لعقول البشر أن تؤمن أو تلحد وهذا السؤال هو أطروحة  كتابي (  العقل المؤمن العقل الملحد )، ثم تبع ذلك سؤال مفاده ( هل يلحد القلب )، وهذا موضوع الكتاب الثاني، مما  أفضى بي إلى سؤال مشاغب أيضاً عن الخطاب الفلسفي نفسه، وهل هو عقلاني بدرجة كافية أم هو خطاب معلول أيضا وينطوي على علل نسقية، وهنا جاءت فكرة مآلات الفلسفة في عصر ما بعد الحداثة وهل ماتت كما زعم هوكينج أم أنها تحولت إلى النظرية النقدية وهذا هو الذي أراه، ومن ثم سعيت لتلمس حال الخطاب الفلسفي عبر السؤال النقدي التشريحي الذي يكشف قصور الفلسفة أو عجز العقل كما ورد عند أبي حامد الغزالي، وكما ورد عند  روسو وكانط وهيجل وإلى حد ما عند برتراند راسل، وهنا أزعم أن الفلسفة تحولت إلى (النظرية النقدية ) بمعنى أنها السؤال وليست الجواب، ولو افترضنا أن الفلسفة تجيب فسيلزمنا أن نحتكم لمتون الفلسفة على مدى 25 قرناً وهي متون أجوبة وبالتالي ستكون قد أنجزت مهمتها وستموت حتما أمام تحديات الفيزياء والذكاء الاصطناعي وقد سميته بالعقلانية الجديدة كما شرحت في كتابي السردية الحرجة، هذه التحديات مع بعضها هي التي أقحمتني بالبحث الفلسفي .

ازدواج ذهني ثقافي

 _ الذي ينقص البشرية حقاً التعددية الثقافية على حد تعبيرك، إلى أي مدى ترى ضرورة التعددية الثقافية وما سبب دعوتك المستمرة لها؟
التعددية حقيقةٌ واقعية ونحن لا نختارها ولا نشترطها كذلك بما أنها حقيقة ماثلة وكلنا كبشر متنوعون لغةً وديناً ولوناً ومشاعرَ وعقولاً، ولكن العلة هي في (اللاتعددية )، بمعنى تمييز عرقٍ على عرق ولونٍ على لون وأرضٍ على أرض، وهي تمايزات حدثت منذ قرون و قرون وعلى أقصى امتدادات الذاكرة، وتظل فعالةً،  وكلما تقوت أمة أو فرد مالت الظروف لمصلحة التمييز ولمصلحة القوي، والتنافس مثلاً بوصفه قيمةً معرفية واقتصادية عظيمة وذات فوائد لا حصر لها لكنه مع ذلك يتحول دوماً إلى تصارعٍ بناء على التمييز أولاً، بحيث يذهب الظن إلى أن النجاح هو خاصية جينية أو هبةٌ خاصة يغذي بها المرء خيالاته بأنه موهوبٌ ومن ثم متميز عن غيره الذين سيكونون عندهم أقل منزلةً وأقل عقليةً وأقل قدرات، ويجري توارث هذه المشاعر عبر الثقافة ومدونات الشعر والملاحم والأساطير ثم عبر الإعلام اليوم ، فتترسخ صور ذهنية تجعل التعددية خارج الاعتبار رغم وجودها الحقيقي، أي أن الوهمي يهزم الواقعي، لدرجة أننا نقول بالتعددية ونمارس التمييز في الوقت ذاته ومن الشخص ذاته، وهذا ازدواج ذهني ثقافي يكشف دور النسق المضمر في تشكيل الوعي ورسم شروطه وفق معان تبنيها الذهنية المتوارثة أو ما سميته بقانون( تاء تاء )، في كتابي السردية الحرجة .

 

  

ما بعد الحداثة

 _ يفضل بعض الكتّاب مخاطبة النخبة ومن برج عاجي، بينما يقود الدكتور عبد الله الغذامي مشروعا فكريا منفتحا على القاعدة العريضة، ما تعليقك على ذلك؟
    أرجو أن أكون كذلك، وقد كان هذا همي الذي شغلني منذ صدور كتابي "الخطيئة والتكفير "عام 1985، ولمست حينذاك ضجراً واسعاً من جماهير القراء وكذلك من بعض أهل الاختصاص حول ما كانوا يصفونه بغموض أفكار الكتاب، وهذا أزعجني أشد الإزعاج، وقد كانت ملاحظتي السابقة على صدور كتابي هذا هي أن الكتب العربية حول النظرية البنيوية موغلةٌ في الغموض والصعوبة وكانت نيتي وأنا أكتب الكتاب أن يكون سلس الأسلوب وعميق المعنى في الوقت ذاته، وكنت أتخوف  من غموض الأسلوب ولكني كنت أقيس على نفسي وهذا هو المقاس الوحيد التي أملك وهو أني ما دمت مستمتعاً بكتابة النص فهذا يقوم كدليل على أن الكتاب ليس معقداً، ولذا  صدمتني ردود الفعل التي وصمت الكتاب بالصعوبة وفي الوقت ذاته كنت أسعى  لطرح نظريات الكتاب على طلابي في الجامعة وتبين لي عملياً حاجته للشرح شفاهياً، عن أي نظرية قبل أن يشرع الطلبة في قراءتها مكتوبةً وهنا جاءني السؤال التالي : مادمت أستطيع شرح النظرية شفاهيًا فلماذا لا أنزلها على الكتابة بنفس درجة الليونة الشفاهية، وفي الوقت ذاته طلب مني تركي السديري رئيس تحرير جريدة الرياض كتابة مقالات في جريدته عن نظريات ( ما بعد البنيوية ) وهنا واجهت التحدي الواقعي، وكيف أكتب مقالةً جماهيريةً في صحيفة يومية عن  نظرية يرى الكل أنها معقدةٌ وهنا كان الامتحان، ولذا بذلت كل جهد أمكنني بذله لكي أروض لغتي وأدجن أسلوبي كي  أبلغ درجةً معقولةً من المقروئية، تصل لقراء جريدة يومية دون عنت في الفهم بناء على ليونة التعبير، وهذا ما جعلني أتهذب أسلوبياً ومن ثم أصل للقاعدة العريضة من القراء والقارئات، ومازلت أشعر بالامتنان لطلابي في الجامعة ولمقالاتي في الصحف لأنهما معاً هذباني أسلوبياً ، وكما قال هنري ميشو : أيتها البساطة الجميلة كيف لم اكتشفك، وقد اكتشفت طريقي للبساطة عبر مواجهتي للطلاب ومواجهتي لقراء الجريدة، وأحيل هنا لشخصيات مهرت بهذا المنحى الأسلوبي الفذ في فن الكتابة وفن التواصل كالجاحظ قديماً وطه حسين والوردي حديثاً وبرتراند راسل في مجال الفلسفة، وهؤلاء هم قبيلتي من الباحثين والمفكرين، والأكيد أن الزمن الذي نعيشه الآن هو زمن ما بعد الحداثة وهو زمن يحتاج للغة تواصلية وتفاعلية تمتلك شروط التوصيل والدقة والمباشرة، وهذه هي منهجيتي في سائر كتبي ما بعد (الخطيئة والتكفير) في أن أكتب كما أتكلم لكي أصل للناس دون تعقيد أو رطانة فكرية لم يعد هذا زمنها.


    

مزايا تويتر
 

"تويتر" أصبح مثل إدمان القهوة بالنسبة للغذامي، في الوقت الذي يترفع عدد من المثقفين عن وسائل التواصل الاجتماعي، ويعتبرونها سبباً لتدني مستوى النصوص الأدبية ورواجها وسبباً لإهدار الوقت والابتعاد عن الكتاب، ما تعليقك على ذلك؟   
أما أن يظن أحد أن وسائل التواصل إهدارٌ للوقت أو تدنٍّ في مستوى الكتابة فهذا أمر لن يقوله من جرب الكتابة في هذه الوسائل، ولنأخذ  مثال أمبرتو إيكو وتشومسكي وكلاهما تأبى عن محاولة الدخول لتويتر وراحا يسخران من مستخدمي هذا التطبيق، ولو جرب أحدهما التعرف على التطبيق لما وجدا عنتاً في ذلك، وفي تويتر سنكتشف أن الواحد منا هو من يملك وقته وهو من يتحكم بلغته ومستواه، ومن ثم فأنا أملك نفسي وعقلي وذوقي وبيدي تحديد فضاءات التعبير والوقت الذي اقتصه لتويتر، وأنا شخصياً لا أفرط قط بمكتبتي ولا بوقتي الخاص بالبحث والمتابعات العلمية، وكما لدي وقت للقهوة ومشاهدة التلفاز فإن لدي وقتاً لتويتر، وقد حددت وقتي مع تويتر لمدة لا تزيد عن ساعتين في اليوم وهو وقت متفرق بين أوقات النهار وينتهي حتماً وقطعاً عند التاسعة مساءً كأقصى حد، ولا يبدأ عندي في الصباح إلا بعد أن انتهي من المكتبة وساعات البحث، على أن وقتي في تويتر هو وقت للبحث أيضاً وقد أصدرت 3 كتب هي نتيجة لوجودي على تويتر، ونيتي كانت مذ دخلت لتويتر هي نية بحثية، والتواصل في تويتر حسب خطتي هو تواصل جوهره علمي ومعرفي ونشر  للفكر والمعرفة وقد نفعني وجودي في تويتر في توصيل أفكاري والترويج لكتبي ولمقالاتي عبر الروابط التي تربط المتابعين والمتابعات بإنتاجي الفكري، ووضعت موقعاً فيه كتبي كلها للتحميل القانوني والمجاني، وساعدني وجودي في تويتر على نشر رابط موقعي وتسهيل الوصول لكتبي وأبحاثي، وهذه مزاياً لم نكن نتمتع بها قبل زمن تويتر، وهذه مسألة يدركها كل من أحسن استخدام وقته ونيته في التعامل مع هذه الوسائل.


التفاعلية الثقافية

الحضارة العالمية اليوم والثقافة الإنسانية تفاعلية، والتفاعلية هي الأصل، بحسب رأيك، كيف توضح ذلك؟

      بما أننا أصبحنا كلنا نتعامل عبر وسائل التواصل فإن العقل البشري معروضٌ بكافة صيغه على هذه الوسائل العامة، ذات اللغة المباشرة والدقيقة والسريعة، وهذه صفات ثلاث تطبع وتصنع سمات الخطابات اليوم، وكل ذي أثر عالمي دخل لتويتر مثلاً ويغرد تفاعلياً مع الأحداث الكونية، فهو بالضرورة الثقافية قد أصبح شخصيةً عامة ولم يعد شخصيةً خاصة وسيكون له حضور يومي أو في الأقل أوقات الضرورة في تغريدات على تويتر ونستطيع عبر تويتر أن نرى عقول البشر ولغاتهم وأنظمة تفكيرهم وكذلك سنرى أخطاءهم وهفواتهم  اللغوية والمعلوماتية، مع انفعالاتهم وردود فعلهم بشكل مباشر ولحظوي، كما نشاهد ردود الفعل عليهم والتعليقات التي تواجه تغريداتهم وكيفية تفاعلهم مع الردود، وهذا مشهد يجعل العالم كله على ( كف شاشة ) كما وصفته في كتابي ثقافة تويتر، وهذه حال تفاعلية لم تشهدها الثقافات السابقة، وهي تفاعلية هدمت أسوار القلعة وجعلت القلعة بمثابة حارةٍ منفتحة على باقي الحارات، وتحطمت الحصانات والتحصينات ولم يعد أحدٌ محصناً ضد الانكشاف الشاشاتي، وهذا يجعل كل شيء تفاعلياً بالضرورة الثقافية الما بعد حداثية.
كما أن التفاعلية المباشرة هي الأصل الثقافي للبشرية منذ زمن الشفاهية، ولكن زمن الكتابة صنع أسواراً فاصلة بين من يقرأ ويكتب وبين من لايقرأ ولا يكتب، وكان القراء هم القلة ولذا تحولوا لنخبة يميزهم عن غيرهم امتلاكهم للغة الكتابة، ومن ثم تصنعت طبقيات ترى لنفسها التفوق والخصوصية وانسحبت التفاعلية مقابل تقوي الخصوصية والنخبوية إلى أن جاء زمن الوسائل فكسر جدران القلعة النخبوية وفتح الفضاء بالمطلق، وتساوى الصغير مع الكبير وانزاحت الطبقية الثقافية لتحل محلها إمبراطورية النمل حسب تعبير "دي سيرتو"، وهذه أبرز خصائص التفاعلية الثقافية التي نعيشها الآن.


خطورة قصيدة النثر

_ تقول" لا شك أن قصيدة النثر تمثل تحديات إبداعية عالية وباهظة ولذا تكثر عثرات طالبيها ممن يستسهل الصعب" ما هي مواصفات قصيدة النثر الجيدة؟
خطورة قصيدة النثر تأتي من الاستهانة بها وتصورها ميسورةً مما يوقع في السذاجة والثرثرة، حتى ليكون النثر العادي أكثرَ شاعريةً وعمقاً منها، بينما هي قصيدة تحمل أخطر التحديات، خاصةً من بعد زمن طال لقرون كان الوزن فيه هو الحصانة الفنية التي تميز الشعر عن النثر، وحين تنازلت قصيدة النثر عن الوزن العروضي فهي هنا تتعرى من كل الأقنعة والتحصينات وتتكشف قدرات الكاتب في ابتكار شعرية ذاتية تأتي من ذاته ومن قدراته ولا تتشفع بشوافع جاهزة تنتظر من يحشوها باللفظ الجميل لكي تبدو شعراً، ومن هذا المدخل غير الآمن والخطر غير المحصن يأتي التحدي، ولذا يقل شعراء قصيدة النثر ويكثر الأدعياء الذين لجؤوا لقصيدة النثر عجزاً عن القصيدة الموزونة فينكشف عوارهم وسذاجةُ حسهم الشعري، ولهذا قلت إن قصيدة النثر تمثل أخطر التحديات الإبداعية لأنها تعري العاجز، وتمتحن مهارات المبدع القادر، وهذا المبدع القادر هو وحده من يتصدى للمهمة الإبداعية، التي تبدو سهلةً وسلسة ولكنها سلاسةٌ خداعةٌ لا يسلم من مخادعاتها إلا من يدرك خطورة الحرية المطلقة، ويعي أنها أخطر من القيود والتعليمات المسبقة. 


شعراء كبار

 _ أدونيس مادة مغرية للبحث بكل وجوهه لأن نصوصه تجمع الشيء ونقيضه، وتصنع التحدي المنهجي، وهنا يتميز النقد الثقافي لأنه يبحث في المضمر النسقي المتغطي بغطاء جمالي مخاتل ومخادع، كيف توضح كلماتك هذه، بالسلاسة التي اعتدناها منك؟
        هذه مسألة تعود لنظرية النقد الثقافي وارتكاز النقد الثقافي على النبش عن الأنساق المضمرة التي تختبئ من تحت الجمالي، أي أن الشعر العربي في جوهره هو(ديوان العرب ) تماماً كما أن ( الفلسفة ) هي ديوان أوروبا، وهما معاً خطابان ثقافيان جوهريان في كلتا الحضارتين، وبما أن الشعر هو ديوان العرب فهو كما وصفه سلفنا يحمل مآثر العرب وذاكرتهم وأمجادهم، ونضيف لذلك أنه أيضا يحمل أنساقهم  الثقافية( وكذلك هي الحال في الغرب والفلسفة الغربية إذ تحمل الفلسفة أنساق الإغريق وأنساق أوروبا الحديثة كما تحمل مزاياهم ) أي أننا إن شئنا أن نعرف مزايا الشخصية العربية فسنجدها في الشعر، وإن تلمسنا عيوبها الثقافية فسنجدها في الشعر، على أن النقد الأدبي يبحث في الجمالي بينما النقد الثقافي يبحث في النسقي، ومن هنا فإني وقفت على المتنبي وأبي تمام قديماً ونزار قباني وأدونيس حديثاً، وهم جميعًا شعراءٌ  كبار لهم أثرهم العميق في الوجدان وفي العقل  العربي معاً، مما يكشف لنا حال هذا الوجدان وحال هذه العقلية، وهذا ما قصدته بالشيء ونقيضه، أي وجود الجميل الشعري والقبيح النسقي معاً في النص ذاته، عند كل واحد من هؤلاء، وهم عينة تدل وتكشف عنهم وعن غيرهم بما أن هذا يمثل ذهنيةً ثقافية متجذرة ومتكررة عند الفحل القديم وعند الفحل الحداثي، وفعلت الشيء نفسه عن حال الخطاب الفلسفي وعيوبه النسقية في كتابي " مآلات الفلسفة ".


 
المرأة في اللغة

_ الحكي قوة ناعمة تواجه القمع الذكوري والإسكات، وتكسر قيود الثقافة المهيمنة، ولكن التأليف نسوي، على حد تعبيرك، ما سر توجه بعض دراساتك لنتاج المرأة الأدبي ؟ 

الكتابة عن المرأة في الخطاب الثقافي شغلتني مذ عام 1987، وحدث ذلك  حين جاءتني دعوةٌ من اتحاد الكتاب العرب يطلبون مني كتابة بحث عن الشعر في منطقة الخليج وكانت الندوة حينها في أبو ظبي، وفي تلك الفترة كنت أمر بحالة ملل طاحنة من كثرة الوقوف على جماليات النصوص، ولم أستطع حمل نفسي على إعداد بحث يدور حول الجماليات الشاعرية ، فلجأت للبحث عن أمر مختلف من باب الهرب من مللي، وأعددت بحثاً بعنوان ( نماذج للمرأة في الشعر الحديث  )، وأخذت ثلاثة نماذج، كلاسيكي ورومانسي وحداثي، وفحصت الصور الذهنية للمرأة في هذه النماذج الثلاثة، أي أنني كنت ألامس الأنساق الثقافية المضمرة دون أن أسميها بهذا المصطلح حينذاك، وفي البحث اكتشفت ما هالني حقاً وكنت غافلاً عنه مذ كان همي هو الجماليات الشعرية، وهو أن موقع المرأة من تحت إهاب الجماليات الفاتنة كان موقعاً مرعباً في تشوهات ثقافية نسقية عن المرأة، وهذا قادني في النهاية للنقد الثقافي والحفر عن الأنساق المضمرة، وكان البحث عن صورة المرأة في الثقافة الفحولية هو المحور الأول لهذه المهمة، ونتج عن ذلك خمسة كتب شكلت مشروع( المرأة في اللغة )، وظل البحث في الخطاب الثقافي ونسقياته يتسع ليشمل نسق الشعرنة ونسق القبائلية ونسق الفحولة( الأنا الجذرية )، كما أنساق الفلسفة بوصفها خطاباً فحولياً منذ زمن أفلاطون، والسياسة بصيغتها الليبرالية الرأسمالية وانحيازاتها، وهذه كلها أنساق ثقافية غير إنسانوية واستعلائية تقوم على مركزية الذات الفحولية، ومن هنا فإني مدين للحظة الملل التي حولتني للشغب المعرفي ومواجهة التحدي الثقافي من حيث ملاحقة الأنساق التي تصنع الذهنية البشرية عبر التوارث والتتابع، حسب قانون  تاء / تاء ، أي التواتر والتتابع، مما يورث رسوخاً ذهنياً يتحول مع الزمن إلى نسق مهيمن.

 

لست شاعرا 

_ كتبت الشعر ونشرت بعضه في جريدة الجزيرة عام 1964، لماذا انقطعت عن كتابة الشعر، وهل حقاً ما يقال بأن الاشتغال في النقد الأدبي يقمع الموهبة الأدبية الكامنة في ذات الناقد أحيانا؟
        صحيح كنت أظنني شاعراً وكنت أدفع بنفسي للشعر لكني اكتشفت في وقت جيد أني لست شاعراً وأني ناقد، وأن مهاراتي النقدية تفوق قدراتي الشعرية، وحدث ذلك عام 1983 حين كنت في تفرغ علمي في جامعة  بيركلي كاليفورنيا، وقد شرعت في كتابة كتابي( الخطيئة والتكفير) وانهمكت في بحار نظريات النقد وما بعد البنيوية، وكان وقتي كله بليله ونهاره مركزاً على البحث، وفي بعض الاستراحات كنت أكتب بعض الأشعار وهنا صرت على بينة مع نفسي تكشفت فيه حال قصائدي مع حال انهماكي في النظريات، وهذا جعلني أدرك الفرق بين تجلياتي النقدية وما كنت أظنه تجليات شعرية، وفي تلك اللحظة حسمت الأمر بأني ناقدٌ ولست شاعراً وأن عقلي النقدي أغلبُ على حالي من وجداني الشعري، فتوقفت بقرار صارم عن كتابة الشعر، وكنت قبلها أهم بنشر أشعاري في ديوان يضمها وكان من المخطط أن أنشر الديوان الأول في عام 1980 ولكني تأخرت عن ذلك وقد حمدت الله أني لم أنشر ديواني ذاك، وحتى الآن وأنا حقاً ممتن لنفسي وحامدٌ لربي أني لم أنشر شعري، مما مكني  أن أجزم  أني لم أكن شاعراً قط كما كنت أتوهم.