الأحد 2 أبريل 2023 / 16:12

بالتسامح يُغفَر لنا.. هكذا تكلّم القديس

جسّد القديس فرنسيس تعاليمه والقيم التي دعا إليها من خلال سلوكه في كل لحظة من حياته التي امتدت خمسة وأربعين عاماً

اختير القديس فرنسيس الأسيزي لكي يُتوِّج اسمُه الكنيسة التي يضمها "بيت العائلة الإبراهيمية"، تخليداً لمسيرة رمز من الرموز الكبرى للتسامح في تاريخ الإنسانية، وللمعاني التي يرتبط بها، ولتكون التسمية فرصة تتجدد على الدوام لاستذكار رسالة التقارب والتعايش والتفاهم التي عاش حياته من أجلها.
يحضر القديس فرنسيس الأسيزي حيثما تكون الحاجة إلى الروحانية الخالصة. ويتجلى ذلك في مجالات عدة، من بينها الأدب، وكان للأدب العربي نصيبه منها، ففي قصة "بالأمس حلمت بك"، للأديب المصري بهاء طاهر، تقول بطلتها المتطلعة إلى هذا النوع من الروحانية: "أحببت أيضاً القديس فرنسيس الأسيزي الذي كان يحب الفقراء والمرضى. في الواقع أني أحتفظ بصورته في غرفتي برغم أن أمي لا تحب ذلك". وكان القديس الكاثوليكي، في القصة، هو النموذج الأسمى لدى البطلة التي كان أبوها قسّاً بروتسنانتيّاً، لأن صوت القديس كان قادراً على مخاطبة كل القلوب المخصلة النقية، عابراً للمذاهب والطوائف والأديان.
وعلى مستوى الأدب العالمي، فقد أسَرَتْ  شخصية القديس فرنسيس وجدان الكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكس- صاحب الروايات  الخالدة مثل "زوربا اليوناني" و"المسيح يُصلب من جديد" - ودفعته إلى تقديم سيرته روائيّاً من خلال عمله الملحمي البديع "فقير الله". ويصف كازانتزاكس في مقدمته تجربته خلال كتابة الرواية بقوله: "في أيّ مكان حولي، وحيثما كنت أكتب، كنت أحس بحضور القديس اللامرئي، لأن القديس فرنسيس بالنسبة لي هو نموذج الإنسان المطيع لله، الإنسان الذي ينجح، من خلال النضال الذي لا يعرف الكلل، والقاسي الذي لا يمكن وصفه، في تحقيق واجبنا السامي الأعلى من الأخلاقية أو الحقيقة أو الجمال: واجب تحويل المادة التي وثق الله بنا وسلّمنا إياها إلى روح".
وتُجسّد أقوال القديس فرنسيس وكلماته تطلعاً إلى مُثُل الخير والحق العليا، ويبقى قوله "بالتسامح يُغفر لنا"، نموذجاً فذّاً لاقتناص حشد لا نهائي من المعاني والدلالات التي يؤكد الإنسان من خلالها إنسانيته، ويمحو بها آثامه وخطاياه، ويقترب من خالقه الأعظم. ويؤكد القديس فرنسيس هذا المعنى بطريقة أخرى، إذ يقول: "إذا كان هناك رجال يستثنون أيّاً من مخلوقات الله من حماية الرأفة والرحمة، فسيكون هناك رجال يعامِلون أخوانَهم بالطريقة نفسها". ولا شك في أن التجارب التي عشناها، تؤكد أن الذين يرفضون ما تفرضه الفطره السليمة من الرحمة والتعاطف مع المختلِف ديناً أو عِرقاً أو رأياً، ويتبنون الكراهية مبدأً وعقيدة، سوف تتسع كراهيتهم وتستشري كما يستشري الورم الخبيث، لتمتد إلى من يشاركونهم دينهم وعقيدتهم، على النحو الذي تجلّى في جرائم جماعات الإرهاب المتسترة بالإسلام زوراً، والدماء الزكيّة لعشرات الآلاف من المسلمين الذين سقطوا ضحايا التحريض الأعمى على العنف والقتل.
تشير سيرة القديس فرنسيس، المولود بإيطاليا لأسرة ثرية عام 1181، إلى أنه أغرم في سنيّ مراهقته الأولى بالفروسية، وشارك وهو في العشرين من عمره في معركة بين قوى محلية متصارعة انتهت به أسيراً، حيث أتيح له أن يعيَ التداعيات المأساوية للحروب، ليبدأ بعد ذلك طريقَه الجديد. وعبر العزلة الطويلة والخلوة التي أتاح فيها لنفسه فرصة التعبد المخلص والتأمل في أسئلة الوجود الكبرى والبحث عن الكمال الروحي، ومن خلال التعاليم المسيحية ذاتها، استصفى لنفسه روح المحبة والتسامح والزهد، ليعلي هذه القيمَ على ما سواها.
جسّد القديس فرنسيس تعاليمه والقيم التي دعا إليها من خلال سلوكه في كل لحظة من حياته التي امتدت خمسة وأربعين عاماً. ويعكس لقاؤه التاريخي عام 1219مع السلطان الكامل الأيوبي في مصر، كثيراً من المعاني التي تكشف عن ضرورة الحوار بين الأديان من أجل تجاوز العداء والضغينة، وإرساء أرضية مشتركة للاحترام المتبادل تسمح للجميع بالعيش معاً في إطار من السلام والتفاهم.
لقد سافر القديس فرنسيس إلى مصر مصاحباً لإحدى الحملات الصليبية، ولم تمنعه حدة المواجهة وظروف القتال من أن يرفض ممارسات المقاتلين الصليبيين التي رأى أنها لا تتفق والقيم المسيحية والإنسانية التي يؤمن بها ويدعو إليها، فقرر أن يزور معسكر السلطان الكامل بنفسه ويتحدث إليه. وعلى الرغم من اختلاف الروايات حول ما دار خلال اللقاء، فإن الثابت هو الاحترام الذي ظلّل هذا الحوار، وتطرقه إلى قضايا دينية استمع فيها كل طرف إلى حجج الآخر ورؤيته، وأن الملك الكامل قد سمح للقديس وأتباعه على إثر هذا اللقاء بزيارة الأرض المقدسة، بدلاً من أن يقتل الرجل الذي تسلل إلى معسكره في وقت الحرب،  وأن القديس فرنسيس قد خرج من اللقاء يحمل التقدير للسلطان ولدينه، وتضمنت تعليماته وصايا لأتباعه بقبول الاختلاف الديني وتفهُّمه، واحترام معتقدات المسلمين والمذاهب المسيحية الأخرى، وتجنّب التجريح أو الطعن في عقائدهم. ولا شك في أن العقل المنفتح للسلطان، واستنارته الدينية، وفهمه الصحيح للإسلام، والصدق والإخلاص اللذين ظهرا في حديث القديس، قد ساعدت جميعها على الوصول إلى هذه النتيجة الإيجابية للقاء.
لقد كان إطلاق اسم القديس فرنسيس الأسيزي على الكنيسة التي يحتضنها "بيت العائلة الإبراهيمية" تخليداً لهذه المعاني. ولعل مما لا يخلو من دلالة، أن تكون الزيارة البابوية الأولى إلى منطقة الخليج عام 2019، من جانب بابا يحمل اسم القديس فرنسيس، وهي الزيارة التي كانت وراء إنشاء "بيت العائلة الإبراهيمية". ولا يتوقف الأمر عند الاشتراك في الاسم بين القديس والحبر الجليل، بل يتعدى ذلك إلى استلهام تعاليم القديس وانتهاج مساره، وهو ما عبر قداسة البابا عند بدء تسلمه مهام منصبه عام 2013، حيث قال: "إنّ الدعوة للحماية لا تتعلق بنا نحن المسيحيين فقط، ولكنها تملك بعداً أوسع، وهو بكل بساطة بعد إنساني يتعلق بالجميع. إنه حماية الخليقة بأسرها وجمال الخليقة كما يقول لنا سفر التكوين، وكما أظهر لنا القديس فرنسيس: بأنه التحلي بالاحترام لكل خلائق الله وللبيئة التي نعيش فيها".
أخيراً، فإننا يجب أن نتوقف مليّاً أمام الدعاء المنسوب إلى القديس فرنسيس الأسيزي، لنطلع على قبس من سموه الروحي، إذ يقول: "يا رب.. استعملني لسلامك، فأضع الحبّ حيث البُغض، والمغفرة حيث الإساءة، والاتفاق حيث الخلاف، والحقيقة حيث الضلال، والإيمان حيث الشك، والرجاء حيث اليأس، والنور حيث الظلمة، والفرح حيث الكآبة".