بيت العائلة الإبراهيمية الذي يضم كنيس موسى بن ميمون (أرشيف)
بيت العائلة الإبراهيمية الذي يضم كنيس موسى بن ميمون (أرشيف)
الإثنين 10 أبريل 2023 / 11:55

موسى بن ميمون مدرساً في «جامعة القرويين»

يحمل الكنيس اليهودي في «بيت العائلة الإبراهيمية» بجزيرة السعديات اسم موسى بن ميمون، أبرز الفلاسفة والمفكرين واليهود في العصور الوسطى، وواحداً من ألمع الأطباء، وقد تجسَّد في مسيرته العلمية امتزاج الفكر الديني اليهودي بالمنجز الفكري والفلسفي والديني الإسلامي، كما كانت مكانته التي احتلها في التاريخ الإسلامي خير دليل على روح التسامح والانفتاح التي اتسم بها عصره، بدءاً من مولده في قرطبة، درة مدائن الأندلس، وحاضرة الخلافة فيها، مروراً بفاس التي أوكل إليه فيها تدريس علم التشريح في «جامعة القرويين» الإسلامية، أول جامعة في العالم، وانتهاءً بمصر التي وصلها عام 1166، وهو في الحادية والثلاثين من عمره، وأكمل فيها بقية حياته متقلداً مناصب دينية وسياسية وعلمية، ومنخرطاً في الحياة الفكرية، متمتعاً بالتقدير والإكبار لشخصه ومعرفته.
وقد بقي الاحترام البالغ من جانب العلماء المسلمين، ومن بينهم كبار علماء الدين، لموسى بن ميمون متواصلاً. ويمكن أن نجد ذلك جليّاً في كتاب المستشرق اليهودي إسرائيل ولفنسون، عن موسى بن ميمون الذي ألفه عام 1936، بمناسبة مرور ثمانمائة عام على مولده، فقد كتب مقدمة الكتاب الشيخ مصطفى عبدالرازق، شيخ الجامع الأزهر بين عامي 1945 و1947، ووزير الأوقاف المصري، وأستاذ كرسي الفلسفة في جامعة فؤاد الأول (القاهرة لاحقاً)، مُستهلّاً إياها استهلالاً لافتاً، قال فيه: «لليهود معظم الفضل في تعريف المسيحيين بالفلسفة الإسلامية في القرون الوسطى. وفي ذلك يقول جيوم تيوفيل تنمان المتوفى عام  1819 في كتابه "المختصر في تاريخ الفلسفة": أهم من حمل مذاهب العرب الفلسفية إلى المسيحيين هم اليهود، نقلوها من بلاد الأندلس، حيث كانت الهمم منصرفة بقوة إلى دراسة العلوم. على أن اليهود أنفسهم ساهموا بقسط ظاهر في عالَم العِلْم، ونشأ فيهم غير واحد من ذوي العقول الفلسفية، منهم الحبر موسى بن ميمون الذي ولد بقرطبة عام 1135م، وتخرج بدروس ابن طفيل وابن رشد، ودرس بنفسه كتب أرسطو».
كان ارتحال أسرة موسى بن ميمون عن قرطبة - وهو من بيت توارث العلم والمعرفة الدينية والدنيوية - راجعاً إلى التعصب الديني الذي حل بالأندلس بعد فترة طويلة من التسامح جعلت منها واحة علم وأمن واستقرار، وكذلك الأمر في مدينة فاس التي غادرها موسى للسبب نفسه، لكن الأمر لم يكن يتعلق بكون الحكام في الحالتين من المسلمين، بل بطبيعة الحكم، ومما يدل على ذلك أن المسيحيين الذين كانوا يحكمون عكَّا لم يكونوا أقل تعصُّباً، لذلك لم يتحمل موسى بن ميمون الإقامة فيها غير ستة أشهر. ويوضح إسرائيل ولفنسون ذلك قائلاً: «كان السبب في نزوح موسى من فلسطين أنها كانت في ذلك العهد تحت حكم الصليبيين، وكانت الطوائف الإسلامية واليهودية ترزح تحت نير هذا الحكم، أما في مصر فكان اليهود تحت حكم الخلفاء الفاطميين يُعامَلون معاملة حسنة، وكانوا فيها أصحاب الأموال والتجارة، كما كانوا منتشرين في أغلب مدن الوجه البحري».
استمر مُقام موسى بن ميمون في مصر نحو أربعة وثلاثين عاماً، ألف خلالها أهم كتبه وأكثرها تأثيراً، ونال مكانة مرموقة خلال حكم الدولة الأيوبية التي خلفت الفاطميين في حكم مصر. وتُقدِّم علاقة الاحترام والمودة التي نشأت بين موسى بين ميمون والقاضي الفاضل، الكاتب ورجل الدولة البارز في عهد صلاح الدين الأيوبي، نموذجاً للروابط الإنسانية العميقة التي تُقدِّر نبل النفس وسمو المعرفة، وتتجاوز الاختلاف الديني. ولقد كان القاضي الفاضل قاضيّاً ورث القضاء عن أبيه وجده، ودرس القرآن والحديث والفقه منذ نعومة أظفاره، وكان إدراكه للروح الإسلامية الحقة وراء علاقته الوطيدة بموسى بن ميمون، على النحو الذي جعله يُعرفه إلى حكام الدولة الأيوبية وسلاطينها. واختير موسى بن ميمون رئيساً لمجلس الحاخاميين بمصر عام 1191، وجعل منها قبلة لعلماء اليهود من كل مكان في العالم. وإلى جانب مهامه الجسام أصبح موسى، الذي ذاعت براعته في الطب، طبيباً خاصاً للملك الأفضل الأيوبي، ولعدد كبير من مسؤولي الدولة ووجهائها.
لقد برهنت حياة موسى بن ميمون وسيرته على قدرة الثقافات والحضارات على الامتزاج، وقدرة الرؤى الدينية والحضارية لدين من الأديان على تقديم الإلهام في دين آخر، دون أن يكون في ذلك تضاد أو تعارض. وقد أشير إلى موسى بن ميمون في الكتابات الغربية والعربية الحديثة بوصفه رجل الدين الذي ترك أثراً لا يُمحى في الديانة اليهودية اعتماداً على المنجز الفكري والفلسفي والديني الإسلامي، من خلال كبار أعلامه مثل ابن رشد وابن طفيل، على النحو الذي أظهرته الباحثة تمار رودافسكي، أستاذ الفلسفة بجامعة أوهايو الأمريكية، في كتابها «موسى بن ميمون»، الذي تُرجم إلى العربية عام 2006.
وفضلاً عن الحكم العام بكون موسى بن ميمون ابناً أصيلاً للفلسفة والفقه وعلم الكلام الإسلامي، فقد خُصصت دراسات علمية عدة لتقصِّي أوجه هذا التشابه في مباحث بعينها، حيث أشار الباحث المغربي أحمد شخلان في كتابه «ابن رشد والمفكر العبري الوسيط» إلى تأثر موسى بن ميمون في كتابه الديني الأشهر «دلالة الحائرين»، بكتابين إسلاميين معروفين هما «فصل المقال» لابن رشد، و«المنقذ من الضلال» للغزالي، لافتاً النظر إلى أن عنوان «دلالة الحائرين» نفسه هو إعادة صياغة لعنوان «المنقذ من الضلال». كما خصص الباحث الجزائري عبدالرحمن خلفة دراسة لإظهار تأثيرات «نظرية المقاصد» الإسلامية في فكر موسى بن ميمون، مورداً نماذج تفصيلية لها.
لهذا كله، كان اختيار موسى بن ميمون لإطلاق اسمه على الكنيس اليهودي في «بيت العائلة الإبراهيمية»، إحياءً لما تشير إليه حياة الرجل من قدرة العقول والنفوس الكبيرة على أن تجد طرقاً للتلاقي، وأن تتجاوز قشور الخلاف المصطنع إلى الجوهر المشترك بين الأديان والعقائد، وتأكيداً على أن التسامح كان على امتداد العصور سمة أصيلة، وأن دولة الإمارات العربية المتحدة قد اختارت أن تبذل كل ما في وسعها لتعيد إلى هذه الفترات المشرقة في التاريخ ما تستحقه من اهتمام، لعلها أن تواجه موجات الكراهية والتباغض التي يروجها شياطين لا يريدون للعالم خيراً ولا سلاماً.