الثلاثاء 18 أبريل 2023 / 21:49

الإمام الطيب.. حامل رسالة الوسطية

ربما كان تولي فضيلة الدكتور أحمد الطيب منصبه شيخاً للأزهر عام 2010، حدثاً من الأحداث التي تأتي في وقتها المناسب تماماً، فقد كان العالم الإسلامي في حاجة ملحة إلى أن يكون على رأس هذه المؤسسة الدينية العريقة رجل يمتلك من الحكمة ما يجعله يُدرك خطر التطرف والتشدد على الإسلام والمسلمين، وعلى مكانتهم في العالم المعاصر.

وُلد الدكتور أحمد الطيب عام 1946، في محافظة قنا بصعيد مصر، في بيت كريم توارث علوم الدين واليسار والوجاهة القائمة على هيبة مستمدة من كرم الأخلاق وغزارة العلم لا من سطوة المنصب أو كثرة المال، وأبصر الفتي في بيت الأب المتدين سماحة الإسلام ويسره، وعمَّق معرفته بطبائع البشر ومشكلات الحياة في مجلس أبيه الذي كان حَكَماً يهرع إليه الخصوم، ويلقون بخلافاتهم بين يديه مطمئنين إلى نزاهة مقصده وصواب حكمه، وقدرته على تغليب المصالحة على الخصومة، والسلم على العداوة، والصفح على الضغينة والغضب.

وارتبط الإسلام في نفس الفتى الطيِّب بهذه المعاني السامية وتشربتها نفسه وروحه. وحين بدأ دراسة العلوم الدينية في المعاهد الأزهرية وفي جامعة الأزهر التي تخرج فيها بتفوق، وخلال دراسته في جامعة السوربون الفرنسية العريقة، كان أقدر على رؤية هذا الجانب الإنساني المشرق في الإسلام، وتكريس حياته العلمية وجهوده الاجتماعية من أجله. ومع انتشار مظاهر التشدد والتطرف وتكاثر جماعات الإرهاب وما اقترفته من جرائم وحشية في مصر وفي غيرها من الدول، أيقن الدكتور أحمد الطيب أن الخطر على مستقبل الإسلام والمسلمين يأتي ممن يحاولون اختطافه لصالح أنفسهم المشبعة بالعنف والكراهية، وآلى على نفسه ألا يساوم أو يتهاون في مواجهة هذا الخطر الداهم.

وقد حفلت مسيرة فضيلة الدكتور أحمد الطيب بجولات التصدي لتيارات الكراهية والتشدد والتطرف المتسترة بالإسلام زوراً، وذلك من خلال معرفته الدينية الأصيلة، وحجته العلمية الدامغة، وبقدر ما كان هادئاً وسمحاً في تعاملاته، فقد ظلَّ صلباً ثابتاً وهو يدافع عن سماحة الإسلام وروحانيته خلال 5 عقود. وقد حارب التطرف من خلال مؤلفاته الأكاديمية، وأحاديثه الدعوية، ومقالاته في الصحف والمجلات، ونشاطه المجتمعي، ومناصبه الرسمية، حتى في ذروة تمدد تيارات التطرف وما بدا من هيمنتها على المجتمع.

ويعبِّر فضيلة الدكتور أحمد الطيب عن رؤيته في مقال بمجلة "صوت الأزهر"، بتاريخ 9 مارس(آذار) 2017، جاء فيه "ما يَحتاجه عالمنا المُعاصِر (الآن) للخروج من أزماته الخانقة هو إرساء مبدأ التعدّدية بين الناس واختلافهم، وهي طبيعة قرَّرها القُرآن الكريم، ورتَّب عليها قانون العلاقة الدوليّة في الإسلام، وذلك من خلال "التَّعَارُف" الذي يَسْتَلزم بالضَّرورَة مبدأ الحوار مع من نتفق ومن نختلف معه، ومن هنا كان من الصعب على المسلم أن يتصوَّر صَبَّ النَّاس والأمم والشعوب في دين واحد أو ثقافة واحدة، لأن مشيئة الله قضت أن يخلق الناس مختلفين حتى في بصمات أصابعهم".

وقد استشعر الدكتور أحمد الطيب خطر وصول جماعات التطرف إلى حكم مصر عام 2012، لإدراكه التبعات الفادحة التي تترتب على ذلك، ولم يُخْفِ موقفه هذا. وقد حاولت هذه الجماعات التي امتلكت السلطة والقرار إزاحته عن منصبه دون جدوى، وبقي هو على صلابته المستمدة من الحق، إلى أن انجلت الغمة وانتهت المرحلة المضطربة التي مرت بها مصر بين عامي 2011 و2013، وكان للعلاقة الوثيقة التي جمعت الدكتور أحمد الطيب بالأنبا شنودة، بابا الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، أكبر الأثر في تجنب الفتنة الطائفية التي كان هناك من يعمل على إذكاء أسبابها، وهي العلاقة التي تواصلت مع الأنبا تواضروس بعد وفاة الأنبا شنودة عام 2012.

وفي استجابة لمساعي دولة الإمارات العربية المتحدة لمحاربة الإرهاب والتطرف من خلال وسطية الإسلام وسماحته، فقد رأس الدكتور أحمد الطيب "مجلس حكماء المسلمين" الذي تأسس في دولة الإمارات عام 2014، وهو يضم كوكبة من العلماء المسلمين الذين يجتمعون حول وسطية الإسلام وسماحته. ومنذ ذلك الحين يؤدي المجلس دوراً مشهوداً في مواجهة أفكار التطرف المقيتة، وكشف زيفها ومجافاتها لروح الإسلام وتعاليمه، وإعلاء قيم التسامح والحوار واحترام العقائد والديانات المختلفة.

وفي عام 2019، احتضنت دولة الإمارات ورعت لقاءً تاريخيّاً بين فضيلة الإمام أحمد الطيب والبابا فرنسيس الثاني، بابا الكنيسة الكاثوليكية، في أول زيارة له إلى منطقة الخليج العربي، وليسطر الرجلان الجليلان صفحة من صفحات التسامح الخالدة في التاريخ، وليصوغا معاً "وثيقة الأخوة الإنسانية" التي حفرت لنفسها مكاناً ومكانة لا تضاهى في ذاكرة الإنسانية، وفي وجدان كل الشعوب المتطلعة إلى السلام والعيش المشترك، وليكون هذا اللقاء مُنطلقاً لجهود إقليمية وعالمية في مجال التسامح والتعايش، منحتها دولة الإمارات كل الدعم ووفرت الظروف المثلى لإنجاحها واستدامتها.

وكان اختيار اسم فضيلة الدكتور أحمد الطيب للمسجد الذي يضمه بيت العائلة الإبراهيمية، تعبيراً عن تقدير مسيرة الرجل، واحتراماً لما تمثله من قيم نحن أحوج ما نكون إليها. وإذا جاز الاجتهاد، فقد كان اختيار اسم عالِم دينٍ معاصِر للمسجد (خلافاً للكنيسة والكنيس اليهودي اللذيْن حملا اسم عالمين يعودان إلى القرن الثاني عشر الميلادي) أمراً مهمّاً، بالنظر إلى المأزق الذي يواجهه المسلمون منذ عقود بسبب أفكار التطرف والإرهاب التي شوهت سماحة الدين الإسلامي ونقاءه، وهو ما جعل الحاجة ملحة إلى تقديم الرمز والنموذج من علماء الدين المسلمين المعاصرين ممن يعكسون جوهر الدين الإسلامي السمح، ويتصدون بالرأي والحجة الدامغة لمختطفي الإسلام والمتاجرين به، ويعالجون قضايا الحاضر بلغة الحاضر، ويطبقون أفكارهم بشجاعة وبأساليب تنتمي إلى الحاضر، استناداً إلى صحيح الدين وتراث علمائه الأجلاء. ويحمل ذلك رسالة ضمنية إلى كل من يعنيه الأمر، بأن التصدي لأفكار التطرف وجماعاته ممكن إذا صحت الإرادة وصدقت العزيمة، وأن ذلك واجب يمكن، بل ويجب، على كلٍّ منَّا أن يشارك فيه بنصيب.