الإثنين 1 مايو 2023 / 13:13

التسامح.. إحدى دعائم ملحمة التفوق الإماراتية

يشير أي تأمل لمسيرة النجاح التي بدأتها دولة الإمارات، منذ اللحظة الأولى لتأسيسها، إلى أنه لم يكن ممكناً لها أن تمضي على النحو الذي اختصر الزمن وتجنب الكثير من العقبات والمشكلات والتحديات الكبرى لولا التسامح الذي اتسمت به واتخذته منهجاً منذ قيامها.
ولقد كان للتسامح وجوده في إمارات الدولة قبل قيام الاتحاد، وهو ما وفر أساساً قوياً للبناء عليه، لكن تجارب كثيرة في المنطقة وفي العالم تعلمنا أن وجود التسامح في بلد بعينه خلال فترة من الفترات ليس ضماناً لاستمراره، فما أكثر التجارب التي أثبتت أن دولاً ومجتمعات كانت تنعم بالتسامح طيلة عقود، ما لبثت أن وجدت نفسها أسيرة التعصب والتشدد واجتياح موجات الكراهية، وهو ما دفع المؤسس الباني، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، إلى أن يجعل من تعزيز التسامح القائم، وتعميق جذوره، واحداً من أهدافه المهمة، حيث قال لأبنائه إن «التسامح واجب، لأن الإنسان إنسان في المقام الأول، خلقه الله إن كان مسلماً أو غير مسلم»، وكان الوالد المؤسس يدرك أن أبناءه الذين يتخذون من كلماته وتوجيهاته دستوراً لهم، ويوقن بأن وصاياه لهم تتحول إلى نهج لا يحيدون عنه، ولا يرضون له بدلاً.
كان التسامح ركناً من أركان نجاح التجربة الاتحادية ذاتها، فالدولة تكونت من سبع إمارات كان لكل منها كيانها المستقل، ولم تكن العلاقات خالية من خلافات وشوائب بحكم تجاذبات السياسة وتعقيداتها في منطقة صعبة، وتوقع كثيرون أن يستغرق عبور هذه الشوائب وتجاوزها زمناً يطول أو يقصر، قياساً على تجارب أخرى، لكن ما حدث كان مذهلاً بكل المقاييس، فقد تلاشت كل الشوائب والخلافات كأنها لم تكن، وائتلفت الكلمة، وتوحدت الإرادة وصدقت العزيمة بين كل أبناء الدولة الفتية على أن تشق طريقها نحو الرخاء والازدهار بأقصى ما يمكن لدولة ناشئة أن تفعل. وما كان ذلك ممكناً لولا فضيلة التسامح التي اقتنع الجميع أنها تفتح الباب نحو مستقبل أفضل، في ظل قيادة أضاءت بصيرتها الطريق، وحددت المسار والهدف.
الأمر نفسه ينطبق على علاقات الدولة الإقليمية والدولية، ففي منطقة لم تعرف الهدوء أو الاستقرار، قررت دولة الإمارات منذ تأسيسها أن تتجاوز كل الخلافات وتتعالى عليها، ومدت يدها بالخير إلى الجميع، تاركة وراء ظهرها كل ما من شأنه أن ينكأ جراحاً أو يثير ضغائن لا طائل من ورائها. ولم تتوقف عند تسامحها هي مع ما مضى من خلافات أو اختلافات، بل ركزت جهودها على محاولة إقناع دول المنطقة بأهمية التسامح في الداخل والخارج من أجل تحقيق طموحات الشعوب إلى الحياة الكريمة والأمن والاستقرار الذي يستفيد منه الجميع، واحتواء نزعات الكراهية والصراع التي تتعاظم منذرة بالشر، مستعينة بما تحظى به قيادتها من احترام وصدقية لدى الحكومات والشعوب سواء بسواء، ومن الحياد والنزاهة اللذين اتسمت بهما في جهودها تلك، ومن اليد الممدودة على الدوام بالمساعدة والعون إلى شقيقاتها.
وكان التسامح في الإمارات الحصن الأقوى في مواجهة رياح الخراب والفوضى التي أثارتها جماعات الإرهاب وشراذمه في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بعد عقود من بثها سموم التشدد والتعصب والكراهية، ومن استهانة بعض الحكومات بالنعرات العرقية والطائفية والمناطقية، ومن محاولات بعضها توظيف التعصب والكراهية لتحقيق أهداف قصيرة الأجل. وكلها خيارات خاطئة انتهت بهذه الدول إلى صراعات مريرة وأزمات متفجرة وتراجع اقتصادي واجتماعي دفع ثمنه الجميع. وعلى كثرة ما حاولت جماعات الشر التسلل بفكرها الخبيث إلى الدولة، فقد باءت محاولاتها بالفشل الذريع، وكان التسامح والتعايش وقبول التنوع والاختلاف الحضاري والثقافي هو الحصن المنيع الذي تكسرت عليه مؤامرات جماعات الإرهاب التي فكرت في تعكير صفو مجتمعها وأمنها.
وكان التسامح إطاراً لاستقبال عشرات الملايين الذين فتحت لهم دولة الإمارات أبوابها للعمل والرزق، وتلقاهم أبناؤها بالترحاب والتقدير، ضاربين أروع الأمثلة في احترام الإنسان أياً كان دينه أو لونه أو جنسه، مستذكرين دائماً قول الوالد الباني إن «الرزق رزق الله، والمال مال الله، والفضل فضل الله، والخلق خلق الله، والأرض أرض الله، واللي يجينا حيّاه الله». ووفرت هذه البيئة الحافلة بالمحبة والاحترام أفضل الظروف لمشاركة عشرات الملايين من كل بلدان الأرض قاطبة، ومن كل الأعراق والأديان والحضارات والثقافات، في المعجزة التنموية التي شهدتها الدولة، وفي الإنجازات التي تحققت على كل المستويات، ذلك أن البيئة المتسامحة التي يضمن فيها الناس احترامهم وتقديرهم تجتذب أصحاب القدرات النوعية والمبدعين والمبتكرين والمتميزين الذين تتضاعف طاقاتهم بفعل الرؤية الواضحة والتخطيط الأمثل، ليكونوا جزءاً من ملحمة العطاء. ولقد واصل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، تقديم الدروس الراقية في كلمته الأولى بعد تسلمه مقاليد قيادة الوطن، بقوله في يوليو (تموز) 2022: «نثمن الدور الذي يقوم به المقيمون على أرض دولة الإمارات الذين يعتبرون الدولة بلدهم الثاني، وإسهاماتهم المستمرة في البناء والتطوير منذ قيام دولة الإمارات».
ولا يمكن إغفال دور التسامح في بث الشعور بالطمأنينة والأمان، لأن التعصب والتشدد والكراهية بكل أشكالها تخلق بيئة للعنف والجريمة. ولا شك في أن كفاءة الأجهزة الشرطية والأمنية ومؤسسات إنفاذ القانون في الدولة تؤدي دوراً أساسياً، لكن البيئة المتسامحة تجعل هذه المهمة أيسر وأسهل. وتبدو نتائج ذلك في نتائج التصنيفات الدولية المعنية بقياس الأمن والأمان، فقد احتلت مدينة أبوظبي المركز الأول في قائمة أكثر دول العالم أماناً لسبع سنوات على التوالي منذ عام 2017، وفقاً لمؤشر «ناميبو» العالمي. وحلت مدن عجمان والشارقة ودبي في المركز الرابع والخامس والسابع عالمياً على التوالي.
الأمر نفسه ينطبق على مجالات أخرى كثيرة، فالتسامح من بين أهم العوامل التي أهلت دولة الإمارات لأن تكون مركزاً ثقافياً عالمياً مرموقاً، يحتضن المتاحف العالمية والمكتبات ويستضيف الفعاليات الفنية الكبرى، ووجهة سياحية يقصدها الملايين كل عام. وسنجد بصمات التسامح أيضاً، ولو بشكل غير مباشر، على النهضة التعليمية، واستضافة فروع الجامعات الكبرى والمدارس الراقية حول العالم، وعلى النهضة العلمية والمعرفية التي تبدو في قطاعات مثل الفضاء والتكنولوجيا والطاقة النووية والمتجددة والهندسة الحيوية، وعلى غيرها من المجالات، لأن التسامح يمهد الأرض أمام الاستفادة القصوى من طاقات الإنسان، ومن قدراته التي أودعها الخالق في نفسه، وأمره بتوظيفها في خدمة الإنسانية بأسرها.
لقد غدا التسامح في الإمارات منهجاً وأسلوب حياة، وهذا ما عبر عنه سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان في مقال له نشر قبل أعوام قائلاً إن "والدنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، علمنا أن التعايش وصفة حياة، وأن احترام وقبول الآخر أقصر الطرق وأجداها لبناء حضارة إنسانية لا تزول".