متحف المستقبل في دبي (أرشيف)
متحف المستقبل في دبي (أرشيف)
الثلاثاء 2 مايو 2023 / 13:14

الإمارات.. والظواهر السياسية المثقفة

لا يخفى على الحصيف أن المجتمع المتحضر هو الشغوف برعاية مضمونه وجوهره ويتطلع بوعي خلاق لاستمرار مقومات هويته الثقافية وانتقالها للأجيال، فالثقافة من شأنها أن تقاوم التوتّرات وتواجه المعضلات السياسية، وتجعل السياسة أكثر نضوجاً وحضوراً في العالم.

ثمة إنجازات ثقافيَّة أحدثت فرقاً جوهرياً في الإمارات، وفي رسم الصورة السياسية لدولة الإمارات، ومنها المهرجانات والأنشطة الثقافية، والمؤتمرات الفكريَّة، وإشاعة ثقافة السلم، وإحياء كل المناسبات التراثية والوطنية، وهو ما يطلق عليه مصطلح القوة الناعمة.

كما أن السياسة المتزنة هي السياسة المثقَّفة، القادرة على انتشال الأوطان من ثقافة الفوضى والغوغاء، في ظل تعقيدات الواقع السياسي. ويأتي على رأس الهرم الثقافي، العلماء، والدعاة، والمفكرون، والكتاب، والأدباء، والأكاديميون.

إن التمكين الثقافي من أجل النضوج السياسي يتطلب إشراك المثقفين في صنع القرار السياسي، وتفعيل الثقافة في شعوبنا العربية التي ترزح تحت وطأة الأمية، والصراعات السياسية، والمتغيرات الدموية، وجميعها أزمات مستفحلة من واقع ثقافي متردٍ، عدا الإرهاب والتطرف والتعصب، وما يشابهها من الظواهر السلبية للثقافة الهشة.
عزوفنا عن الثقافة مرده واقع فكري هزيل ومخجل، ولا عجبَ حينما تنقطع أواصر الذاكرة الثقافية الجمعية، بيننا وبين أجيالنا، وهذا خَطر أمني لا يقل أهمية عن ثغرة في حدودنا الجغرافية، إذ لا شيء يمكنه أن يجعل الإنسان في وضع أكثر خطورة من الشعور بعدم الأمان الثقافي.
هناك الكثير من الظواهر السياسية المثقفة، القادرة على تعميق الفكر، خاصة تحرك الإمارات الملموس في صياغة المشهد السلمي، وصياغة ثقافة تتسم بالحرية والتعايش وقبول الآخر، وكل تلك الإنجازات تُحركها قيم الثقافة النبيلة..
هناك حزمة من القرارات المضيئة والصارمة في آن واحد، أهمها "ثقافة المستقبل" التي هيأت الإنسان الإماراتي إلى الأخد بكل قيم التسامح والتعايش، وبعثها من جديد، إنه حراك ضخم يقوده شيوخنا الأجاود لتحويل الإمارات، إلى بيئة ثقافية غنية بالقيم الإنسانية والحضارية المشتركة.
إن تحقيق الوحدة الوطنية وإعلاء قيمة الوطن والمواطنة، أولوية فوق كل الاعتبارات، لأنه يمثل أهمية بناء الهوية الوطنية الناضجة من خلال الثقافة، ولأن الثقافة والنظام الثقافي السائد يؤثران في نجاح الخيارات الوطنية الرائدة، وإذا أردنا ثقافة وطنية صالحة وعميقة ومترسخة، فعلينا تأسيس مفهوم المواطنة الثقافية، فالعلاقة عميقة بين هذين المفهومين، ولا يمكننا خلق ثقافة وطنية أصيلة في الشعوب، والقدرة على الحفاظ على الأصالة والتراث، أو مواجهة التحديات التاريخية إلا بالمواطنة الثقافية بكل حقائقها ومتطلباتها، فهي علاقة مشاركة واعية في خلق فضاء وطني يواجِه بقوة تحديات الراهن، وموطن المعجزة هو الثقافة الوطنية المستحكمة للشعوب على مر اﻷجيال.
إن المطلوب هو تلك الثقافة الغنية الواعية، والمواطنة الصالحة هي تلك المواطنة المثقفة المؤمنة بقيم العمران والتقدم والإنتاج، واحترام دولة القانون، وتعزيز دور القيم المدنيّة والسلوك الحضاري، وترسيخ قيم العروبة، والإسلام، والقيم الإنسانيّة.
ومن هنا تأتي أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه رجال الوطن المثقفون من المؤمنين بقيم المواطنة الصالحة في تدعيم اللحمة الوطنية أولًا، وتقديم ما يمثله الوطن من قيم إيجابية بناءة، تعزز الأمن والاستقرار والتنمية؛ من أجل فضاء ثقافي يقود لواقع أفضل، بوصفه سلاحاً فعالًا في مواجهة المخاطر والأزمات..

إن الثقافة فعل مستمر وناهض، والثقافة الإيجابية ترسخ قيم التفاؤل والسعادة، والقدرة على التأثير في الوعي الجمعي، لأنها حائط صد التوترات السياسية، وفرض أنماط سلوكية معينة، لأننا في مرحلة تحتم علينا اتباع أسلوب حياة جديدة، المرحلة المقبلة تتطلب ثقافة ذات طابع خاص، لتنشر قيم المسؤولية والوعي الوطني والانضباط.
أكاد أجزم أن لا فرق بين الثقافة والمستقبل، فكلاهما لا ينفصلان عن بعض، العمل الثقافي هو فعل المستقبل، وفعل المستقبل يتطلب سياسة التجدُّد والتطوُّر، فضلًا عن ذلك فإن الحياة دون نشاط فكري، وعراك ثقافي فاعل، وحصاد من المناقشات المثمرة في كل الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مستنقع آسن لحياة راكدة لا تتجدد.
والسياسة المثقفة من خصائص الازدهار الإنساني، وهي الوسيلة الأجدى لانتشال أي مجتمع من التخلف والاضطرابات، بل هي محاولة جادة لتوحيد الإنسانية تحت مظلة واحدة.
إن السياسة المثقفة وحدها القادرة على خلق التفكير الوسطي والتسامح، والتدين المعتدل لمواكبة المتغيرات، لأن نمط التدين السابق أقصى دور الثقافة، ورفض الشراكة الثقافية العالمية، ومن ثم توقف قطار المستقبل، وتباطأ فعله وحراكه، وتحولت الأمة إلى بؤرة صراع وتناحر، وجرد الإسلام من كل القيم الحضارية التي أضافها في الفكر الإنساني، باحترام العقل، وإشاعة التنوير، وكأننا لم نكن يوما أمة "اقرأ"، و"القلم"، و"الراسخون في العلم".