الإثنين 8 مايو 2023 / 10:55

«وثيقة الأخوة الإنسانية».. نصٌّ للخلود

شهدت أبوظبي في فبراير 2019 توقيع البابا فرنسيس والإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب على "وثيقة الأخوة الإنسانية"، التي مثّلت إعلاناً مشتركاً يحث على السلام بين الناس في العالم. وقد كُتب الكثير عن مضمون تلك الوثيقة، والرمزية التي تمثلها، وتأثيرها، وتوقيتها، لكن جانباً مهماً منها لم يحظ حتى الآن بالاهتمام الكافي، وهو كونها نصاً أدبيّاً مدهشاً في بنائه ومفرداته وتراكيبه وأسلوبه، ونموذجاً للبلاغة العربية الرفيعة في أجلى صورها وأنقاها وأرقاها، على النحو الذي يجعلها جديرة بتحليل خطابها شكلاً ومضموناً، للوقوف على مواطن جمالها اللغوي الفريد، وحمولاتها الثقافية الثرية، والمنابع الأصلية والنصوص المؤسسة التي يسري قبسٌ منها في الوثيقة من بدايتها إلى نهايتها كما تسري عصارات الحياة خفيًّة هادئة في عروق شجرة يانعة.
لا تكتسب الأفكار قوتها من ذاتها، بل من قوة التعبير عنها، وقدرته على التقاط الخالد والباقي من الفكرة، بحيث تجد طريقها إلى النفوس في سلاسة ويسر. ويعتمد ذلك في جزء منه على الإقناع العقلي وبناء الحجج والبراهين وإقامة الأبنية المنطقية التي تؤدي فيها المقدمات إلى النتائج، لكن هذا الإقناع العقلي يرتبط في كثير من الأحيان بزمانه ومكانه، ويفقد تأثيره خارج هذا السياق. أما النوع الآخر من النصوص فإنه يمتلك قدرة على عبور قيد المكان الزمان، والاحتفاظ بألقه ورونقه بتوالي العقود والقرون، لأنه يرتكز على المعاني الإنسانية الباقية التي لا تعرف تبدُّلاً أو تحوُّلاً، قدر اعتماده على اللغة في أعلى حالات نقائها. وفي رأيي أن «وثيقة الأخوة الإنسانية» هي أحد النصوص التي كُتبت لتبقى خالدة، ولتحفر لنفسها مكاناً بين النصوص العظيمة في تاريخ الإنسانية.
ستظل الوثيقة نصاً خالداً لأن منابعها الأصيلة تنتمي إلى التاريخ الروحي والأدبيات الكبرى للأديان والثقافات والحضارات المختلفة، ما يتسق مع مضمونها الذي يعلي المُشترك الإنساني ويحتفي بالتنوع والتعددية، ويرى الاختلاف سنة كونية وحقيقة واقعة يجب الاعتراف بها واحترامها، ويدعو إلى الوقوف بحزم ومسؤولية ضد دعوات التعصب والكراهية، اعتماداً على الفضائل الإنسانية في كل الديانات والمذاهب والفلسفات والأفكار، وهو ما يجعل كل إنسان يرى نفسه فيها، ويتبنى منهجها الذي يسعى إلى بناء عالم أفضل ينعم بعطاياه وثماره الجميع.
ونلمح وراء نص هذه الوثيقة الخالدة ظلالاً لأعظم النصوص في تاريخ البشرية، سواء منها ما جاء على لسان الأنبياء والصالحين، أو الفلاسفة والمفكرين والمتصوفة والرموز الإنسانية التي حملت أعباء الدفاع عن قيم الإخاء والسلام والتسامح. ويمكن لكل من يقرأ الوثيقة أن يستشف في سطورها وكلماتها تعاليم ووصايا مثل قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، في خطبة الوداع «أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى»، وقول عيسى عليه السلام في الموعظة على الجبل «طوبى للجياع والعطاش الى البِّر، لأنهم يَشْبَعون. طوبى للرحماء، لأنهم يُرحَمون. طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون».
وسنجد وراء نص الوثيقة أيضاً ظلالاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بقدر ما نجد ظلالاً لخطاب «لديَّ حلم» للزعيم الأمريكي مارتن لوثر كينغ، أو لكلمات الزعيم الهندي غاندي، ولشاعر ومفكر مسيحي عربي مثل جبران خليل جبران، ومتصوف وشاعر فارسي مسلم مثل جلال الدين الرومي، وفيلسوف وشاعر هندي مثل طاغور، وجميع هؤلاء يلتقون عند تعظيم إنسانية الإنسان، واعتبار الأخوة الإنسانية رابطاً يسمو على كل الروابط ويُجنِّب البشر كثيراً من المآسي المرتبطة بالتفرقة بينهم وتقسيمهم إلى فئات، وخاصة في مجال الأديان والعقائد، إذ كان هذا التقسيم الأخير هو الأكثر عنفاً وفتكاً وحصداً لأرواح الضحايا الأبرياء.
إن المرء ليقف مأخوذاً بجلال اللفظ والمعنى في الجملة التي تُفتتح بها الوثيقة، إذ تبدو وكأنها تواصلت في لحظة إشراق متسامية مع روح الكون ذاته وصادفت كنز الحقيقة المخبوء: «باسمِ الله الَّذي خَلَقَ البَشَرَ جميعاً مُتَساوِين في الحُقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ، ودَعاهُم للعَيْشِ كإخوةٍ فيما بَيْنَهم ليُعَمِّروا الأرضَ، ويَنشُروا فيها قِيَمَ الخَيْرِ والمَحَبَّةِ والسَّلامِ»، وهي الكلمات التي يجد الإنسان نفسه معها مُنتقلاً إلى كونها الخاص بها، حيث الحكمة والبصيرة والحقائق التي تشرق أمام الأعين والقلوب. وفي هذا «الكشف» والخروج من العارض والمؤقت إلى الخالد والباقي، ومن المظاهر والأعراض إلى اللباب والجوهر، تتجلى قدرة الكلمات وسلطتها وعمق تأثيرها وامتداده.
وربما يكفي هذا السطر المُقتبس من الوثيقة لإيصال الفكرة، لكن كل كلمة فيها تستحق قراءة متأملة لاستبطان مواطن الجمال والرقي فيها. ولا شك في أن المعرفة العميقة والشاملة والقامة السامقة للحبرين الجليلين الدكتور أحمد الطيب والبابا فرنسيس، والعمر الذي أنفقاه مخلصين للبحث والدراسة، جميعها عوامل تقف وراء الآفاق السامية التي تحلق فيها «وثيقة الأخوة الإنسانية»، لكن المؤكد أيضاً أن المعرفة لم تكن لتقدم وحدها هذا النص الخالد، أو تضمن له ما يموج به من حياة وحيوية ونفاذ إلى أعماق النفوس، والأولى أن ذلك يعود إلى عامل آخر إضافي، هو عمق اليقين والإيمان برسالة التسامح والأخوة الإنسانية والسلام لدى الرجلين، والإخلاص التام لمهمة إنقاذ البشرية من تبعات الكراهية والفرقة، وهو ما منحها روحها المتفردة، وسما بها إلى مرتبة النص الذي سيعيش طويلاً طويلاً، ويظل ضرورياً وملهماً  على امتداد الزمن.
ومن وراء هذه الجهود المُقدَّرة جميعها، يقف عامل رئيسي، هو أن ذلك الزخم إنما يستند في أساسه الصلب إلى إيمان القيادة الرشيدة لدولة الإمارات العربية المتحدة بدورها الإنساني في مجال التسامح والعيش المشترك، وتصديها لقيادة الجهود الإقليمية والدولية في هذين المجالين في مرحلة صعبة في تاريخ الإنسانية، وفي مواجهة تحديات جسام كانت تجعل توقيع مثل هذه الوثيقة أقرب إلى المستحيل. وقد وظفت الدولة مكانتها العالمية، وما تحظى به من احترام وصدقية وتأثير، في صناعة هذا الحدث الكبير، بداية من مرحلة الفكرة، ومروراً بملحمة هائلة من الجهود السياسية والدبلوماسية والتنظيمية الهائلة، وانتهاء باللقاء التاريخي الذي كان توقيع الوثيقة أحد مخرجاته الكبرى.
وإذا كان لدى دولة الإمارات العربية المتحدة الكثير الكثير مما تفخر به في كل المجالات، فإن «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» ستحتل مرتبة مهمة بين بواعث الفخر الوطني ودواعيه، وستبقى واحداً من الشواهد المهمة والخالدة على الدور الإنساني لبلدنا المعطاء، وقيادته الرشيدة.