الإثنين 22 مايو 2023 / 23:45

التنوع الثقافي وترسيخ التسامح في دولة الإمارات

تضع المؤسسات الثقافية في الإمارات مفهوم التنوع الثقافي ضمن أهم معاييرها



لا يكاد يخلو حديث عن إنجازات دولة الإمارات في العقود الخمسة الماضية من الإشارة إلى ما يتمتع به مجتمعها من التفاهم والانسجام والاحترام المتبادل بين جميع القاطنين على أرضها على الرغم من انتمائهم إلى أكثر من مئتي جنسية، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا القوانين التي تكفل للجميع حقوقهم بغضّ النظر عن أي انتماء، ولولا وجود منظومة من القيم تعزز احترام التنوع الثقافي، وتحثّ على التفاهم والتقارب والتواصل والحوار بما يحقق الخير للجميع.
إن قبول التنوع الثقافي ليس أمراً طارئاً أو مُستجدّاً في دولة الإمارات بحكم موقعها الساحلي، فالإمارات التي تكونت منها الدولة كانت طيلة ثلاثة قرون مراكز تجارية نشطة تستقبل التجار من دول عدة، وأهمها الهند، كما كانت مقرّاً لأعداد غير قليلة من التجار. وقد سجَّل الضابط الإنجليزي الكابتن جورج برَكْس، عام 1822، وجود أعداد غير قليلة من التجار الهنود ممن يقيمون في أبوظبي والشارقة وأم القيوين، ويعملون في تجارة اللؤلؤ والمنسوجات والحبوب وصياغة الذهب. وبالمثل كان أبناء إمارات الساحل الذين يمتهنون الصيد والتجارة واستخراج اللؤلؤ في ترحال دائم إلى الدول المجاورة، حيث يتقاسمون الحياة مع أناس من جنسيات وثقافات وديانات مختلفة، ويتبادلون مع البضائع والسلع الأفكار والعادات وطرائق العيش، وينقلون منها ما يصلح لحياتهم.
وإذا كانت الجغرافيا وطبيعة الأنشطة الاقتصادية قد جعلتا المجال مهيَّأً لإدراك حتمية التعددية الثقافية وقبول التنوع، فإن العامل الذي لا يقل أهمية هو حرص حكام الإمارات طيلة القرون الثلاثة على حماية هذا التنوع، ورفض دعاوى التعصب أو الكراهية التي كانت تجد لها صوتاً مسموعاً في دول ومناطق جغرافية قريبة. وهكذا أصبح قبول التنوع الثقافي جزءاً من تقاليد إمارات الدولة، ثم شهد نقلة نوعية مع تأسيس الاتحاد وتوافد ملايين البشر من كل مكان في العالم طلباً للرزق الكريم والحياة الآمنة، وهو ما صاحبه حرص بالغ من جانب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، على ترسيخ احترام التنوع الثقافي، وتحويله إلى أحد مصادر قوة الدولة وجاذبيتها ورخائها.
وتضع المؤسسات الثقافية في دولة الإمارات، منذ تأسيسها، مفهوم التنوع الثقافي ضمن أهم معاييرها وأولوياتها، وتعبر عنه بوضوح في استراتيجياتها وخططها، على النحو الذي يمكن أن نجد نموذجاً له في شرح متحف اللوفر لـ"قصته"، وتصوره لمفهوم "العالمية"، الذي يشرحه بقوله: "بالنسبة إلى متحف اللوفر أبوظبي، العالمية هي التركيز على ما يُوحّدنا، أي تقصي إبداع الإنسانية التي تتخطى حدود الثقافات والحضارات والأزمنة والأماكن. وهذه الروح هي المُحرّك الحقيقي للمتحف في كل ما يقوم به، بدءاً من تأسيسه كشاهد على التعاون بين ثقافتين، وصولاً إلى الهندسة المعمارية المُبهرة التي تجمع بين التصميم الفرنسي والتراث العربي".
وهذا الفهم ذاته نجده حاضراً في تعريف متحف "جوجنهايم"، الذي سيكتمل بناؤه عام 2025، لنفسه، فوقاً لموقعه على شبكة الإنترنت، فإنه سيشكل عند افتتاحه "المتحف الأبرز في المنطقة للأعمال الفنية والثقافية العالمية الحديثة والمعاصرة، وسيعمل على صياغة فهم أعمق لكيفية مساهمة وجهات النظر الفنية المختلفة في رسم ملامح التنوع الثقافي والحضاري لعصرنا الحالي". ويمكن القول بأن هذه الرؤية تصدق على عدد كبير جدّاً من الأنشطة والفعاليات التي تشهدها الدولة في المجال الثقافي.
وتبدو العناية بالتنوع الثقافي في العناية الهائلة بترجمة الأعمال الفكرية والأدبية والمجتمعية التي تقيم جسوراً للفهم والتواصل مع مختلف الشعوب والحضارات، من خلال مشروعات مثل مشروع "كلمة" الذي صدر عنه ما يقارب 1300 كتاب في شتى حقول المعرفة، أو تخصيص جوائز للترجمة من العربية وإليها، والاحتفاء بجميع الثقافات كما تفعل "جائزة الشيخ زايد للكتاب"، أو إتاحة الفرصة لدول أخرى لتقديم مختلف جوانب ثقافتها ونهضتها للعالم العربي، على النحو الذي يتمثل في اختيار دولة لتكون ضيفاً للشرف في "معرض أبوظبي الدولي للكتاب". كما تتيح الفعاليات الثقافية، في مجالات مثل السينما والموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية، فرصاً لمثقفين ومبدعين من كل أنحاء العالم للتواصل مع العالم العربي من خلال أنشطة ذات قدرة على النفاذ والتأثير بحكم موقع دولة الإمارات الثقافي المتقدم، وبحكم وجود جاليات من كل دول العالم تقريباً، ما يمنح هذه الفعاليات قدرة على اجتذاب جماهير كبيرة.
وظهرت ثمار هذه الجهود في صور مختلفة من التقدير الذي حظيت به الدولة، ولاسيما مع "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة" (اليونسكو)، الجهة العالمية التي ترعى التنوع الثقافي وتتابع جهوده في العالم بأسره. ومن مظاهر هذا التقدير فوز أبوظبي عام 2021 بلقب "مدينة الموسيقى"، وكان من بين حيثيات الفوز احتضانها مشهداً موسيقياً عصريّاً مزدهراً، ووجود أفراد من 200 جنسية، يحمل كل منهم ثقافته الخاصة وطريقته المميزة في التعبير الموسيقي، وسعي الاستراتيجية الثقافية لأبوظبي إلى جذب المزيد من الاهتمام إلى هذا التنوع الموسيقي.
وفي السياق نفسه حصلت الدولة، عام 2020، على عضوية "اللجنة الدولية الحكومية لحماية وتعزيز أشكال التعبير عن التنوع الثقافي" للفترة 2021-2025، وهي تابعة لـ"اليونسكو". كما وقعت دولة الإمارات مع "اليونسكو" عام 2021 اتفاقية لإنشاء "المركز الدولي لبناء القدرات في مجال التراث الثقافي غير المادي بالدول العربية" في إمارة الشارقة، حيث يتاح للدول العربية أن تحفظ تراثها غير المادي، الذي يُقدِّم نموذجاً للتنوع والثراء في إطار مظلة ثقافية وحضارية عربية جامعة.
وتوفر جهود دعم التنوع الثقافي في الدولة أرضية صلبة للتسامح الذي نجحت دولة الإمارات في تقديم أروع صوره، وفي مضاعفة الاهتمام الإقليمي والعالمي بالتعاون من أجل نشره وتدعيم أسسه، وفي صناعة النموذج الإيجابي الذي يُثبت أن مساحة صغيرة من الأرض يمكن لها أن تحتضن كل ثقافات العالم، وتتسع لها، وتقبلها بعقل وقلب مفتوحين، وتفتح الطريق أمام تآلفها وتقاربها. ولعل تجربة الدولة في هذا الصدد أن تكون ملهمة لدول أخرى لتكرارها والاستفادة من آفاقها المقترنة بالاستقرار والازدهار والحياة الكريمة للجميع.