الجمعة 26 مايو 2023 / 08:38

عراق ما بعد عقدين من الاحتلال

د. محمد السعيد إدريس- صحيفة الخليج الإماراتية

على غير كل ما هو متوقع، صدم الرئيس الأمريكي جو بايدن، قطاعاً واسعاً من المتفائلين والمستبشرين خيراً ب«العراق الجديد» في ثوبه العروبي، سواء كانوا من العراقيين، أو من العرب.



كانت التوقعات والطموحات تأمل بأن يكون العراق تخلّص نهائياً من إرث الاحتلال الأمريكي والرغبة، في محاسبة المسؤولين عن الغزو الأمريكي – البريطاني. لكن بدلاً من أن تقدّم الإدارة الديمقراطية، وعلى رأسها الرئيس جو بايدن، هدايا لها وزنها وقيمتها للعراق، تكفيراً عن جريمة الغزو والاحتلال، فاجأ بايدن العراقيين بالتوقيع في يوم له دلالاته السوداوية للعراقيين والعرب جميعاً، وهو يوم الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة فلسطين (15 مايو/ أيار الجاري)، على مرسوم مدد بموجبه ما يسمى في واشنطن ب«حالة الطوارئ الوطنية» المتعلقة بشأن الأوضاع في العراق. هذا المرسوم جرى تمديده 20 مرة، هو عمر سنوات ارتباط أمريكا بالعراق من منظور «احتلالي»، عندما صدر القرار رقم 13303 بتوقيع الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش (الابن) في عام 2003 عقب الغزو، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق في 20 مارس/ آذار 2003.
هذا المرسوم هو الذي تسترت وراءه إدارة بوش لممارسة أسوأ أشكال القمع والإذلال في التاريخ المعاصر، ضد الشعب العراقي، حيث كان يقضي بحظر تصدير بعض السلع الخاصة، إضافة إلى معاقبة الشخصيات والكيانات (العراقية) التي تشكل تهديداً للأمن القومي والسياسة الخارجية (للعراق المحتل) وللولايات المتحدة، أي التي تهدد الاحتلال الأمريكي.
هذا المرسوم كان، وما زال يمثل العنوان الأبرز لجريمة العصر الأمريكية للعراق، وبدلاً من التسرع لإخفائه وإنهاء العمل به، إلا أنهم ما زالوا، رغم كل ما حدث من بعض المراجعات العراقية للوجود العسكري الأمريكي، ورغم صدور قرار من البرلمان العراقي بإنهاء هذا الوجود، يتبجحون للمرة الحادية والعشرين ويجددون لهذا المرسوم، ما يعني أن الأمريكيين، رغم كل ما حدث، ما زالوا يعتبرون أنفسهم قوة احتلال للعراق، تبرر لهم ممارسة كل ما يريدون من سياسات تخص العراق، متسترين وراء ما يسمى ب«تنظيم داعش الإرهابي» الذي يعملون على جعله «تكأة» تعطيهم حق البقاء بالعراق.
السؤال المهم بهذا الخصوص هو: لماذا يصّر الأمريكيون على تجاهل أن هذا المرسوم كان، وسيبقى عنواناً لجرائمهم في العراق؟
السبب الرئيسي لهذا النوع من السياسات الإجرامية الأمريكية هو أن قادة الولايات المتحدة، من سياسيين وعسكريين المسؤولين عن قرار غزو العراق، لم يحاسبوا حتى الآن من أية جهة عراقية، أو دولية، أو عربية على كل ما اقترفوه، وربما خلق هذا «التسيّب» قناعة عند هؤلاء وغيرهم، بأنهم لم يقترفوا إثماً عندما زيفوا الحقائق والتاريخ «لتحرير العراق» من الحكم الاستبدادي، والتأسيس لحكم ديمقراطي.
توقيع الرئيس بايدن لم يأت من فراغ، فهو يعكس سياسة أمريكية راسخة عند الأمريكيين بأنهم أصحاب حق في استمرار السيطرة على العراق، وما صدر من تصريحات على لسان الرئيس السابق، دونالد ترامب، بخصوص الحق الأمريكي في استرداد المليارات التي أنفقت على الغزو الأمريكي واحتلاله، ليس إلا تأكيداً لذلك. إلى جانب دلائل أخرى تؤكد هذا الفهم حتى يومنا هذا، منها الزيارة المفاجئة وغير المعلنة لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن للعراق في موعد يتزامن مع ذكرى تاريخ الغزو، ما يؤكد أن الأمريكيين ما زالوا يعيشون «زخم الغزو»، وما زالوا حريصين على تأكيد استمرار مخرجاته، حيث صرح بأن هذه الزيارة «تأتي لتأكيد الشراكة الاستراتيجية مع العراق»، ومنها أيضاً الممارسات غير المعتادة التي تعتبر «فوق العادة» للسفيرة الأمريكية في بغداد.
هناك مفارقتان جددتا الشعور بمرارة الاحتلال الأمريكي للعراق؛ أولاهما تزعّم الرئيس بايدن لدعوة المحكمة الجنائية الدولية لاعتقال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن جرائم ترى المحكمة أنها ارتكبت في أوكرانيا، فيما أن هذه المحكمة لم تتحرك قيد أنملة لمحاسبة القادة الأمريكيين والبريطانيين على جرائمهم التي ارتكبوها بحق العراق. أما المفارقة الثانية فهي شريط الفيديو الوثائقي المرعب لجرائم الحرب الأمريكية في العراق، وبالذات استخدام قنابل «اليورانيوم المنضب» ضد القوات العراقية، خاصة عند مطار بغداد التي تمت إبادتها بالكامل، وكذلك جرائم التعذيب في معتقل أبوغريب.
مفارقتان كفيلتان بتقديم أفضل إجابة للمرسوم الذي وقعه جو بايدن، بحق العراق تكشف، من دون مواربة، عن الوجه الحقيقي للسياسة الأمريكية.