تعبيرية.
تعبيرية.
الأربعاء 31 مايو 2023 / 20:50

الصوفية المقتصدة

تمثل الثقافة الربانية والتراث الروحي طوق النجاة للمجتمعات إبان المحن والأزمات

آتى علينا حينًا من الدهر ثقافة متنطعة لم تنصف أهل العرفان وجهابذة التدين الروحاني، وصرفوا الناس عن التربية والتزكية بكون التصوف للطعن في كل ما يتصل بالتدين الروحي ، فهذا التدين له حقائق وأحوال معروفة للوصول إلى الله والتي تهدف في نهاية الطريق إلى صفاء النفس من أجل الوصول لمرتبة الصديقية أو الصدق مع الله.
ليس التصوُّف نوعًا واحدًا، وإن هناك نوعًا من التصوُّف اتفق عليه العلماء المعتدلون من الأمة، وهو "التصوف المقتصد" الذي يتفق مع الذائقة الروحية المتعايشة التي زكت نفسها وتصالحت مع نفسها ومع الآخر، فالتوازن الداخلي والروحاني يصنع قيمًا متوازنة مثل التسامح والعدالة والسلام، فهي قيم منسجمة مع النفس الإنسانية، كما يعتبر تراث علمي ومعرفي تم إلتشكيك به وإبعاده، ولابد من إماطة اللثام عن أحواله ومآثره وأدوارها الخالدة والمؤثرة في التاريخ والفقه الإسلامي.
ونظرًا للمنزلة الدّينيّة للقِيَم الروحيَّة، فقد تمت إذابة الفوارق بين الصوفية ككل، وبين أهل السنة والجماعة من خلال علمائها الأجلاء ممن لهم أقوال عادلة في أئمة التدين الروحي، وهو الفهم الإنساني للدين والتدين قبل أن يكون هناك تصوف أصلًا.
لقد رأى العلماء من المتصوفة المعتدلين ضرورة رفع الهمم الروحية من خلال الأخلاق، فالتراث الروحي به مخزون من الثقافة الربانية تعانق أسرار الروح والإيمان، وقد اعترف ابن تيمية وهو شيخ السلفيين بهؤلاء المتصوفة المعتدلين، وبصوفيتهم المهتدلة، وسمّى أصحابها بأنهم من صوفية أهل السنة، أو صوفية أهل الحديث، أو صوفية أهل العلم، أو مقتصدة الصوفية.
إن التدين الروحاني الصحيح هو الأقدر على التسامح مع الآخر من موقع المشاركة التي يفرضها الواقع، قياسًا إلى التدين الحرفي الظاهري الجاف، الذي تُستدعى به إلى المجتمعات المعاصرة أسوأ ما في جوانب الفقة من تشدُّد، على حساب جوهر الدين وقيمه الكلية المطلقة ذات المضمون الروحي الإنساني.
التدين الروحي ضرورة ملحة، بعد أن باتت العبودية لله لدى الكثيرين من منطلق انتظار الجزاء في الآخرة والحصول على المطامع الحسية، لا من منطلق حلاوة الإيمان والأشواق الروحية، واقتصر اهتمام المسلم على قضايا ذات طبيعة شكلية للعبادات والشرائع، وفقدان لذة العبادة والمناجاة، ومدى تطبيق القيم والمبادئ الأخلاقية.
إن من وضع بذور الشك فى تراثنا ومورثاتنا وعقائدنا، وشكك فى طريقة تعاطينا للدين هم المتشددون، وهم أول من حرث هذا الحرث الذى أصَّل فينا لفكرة أنه توجد فى الأمة الفرق الناجية والمبتدعة والضالة، وأضحينا نستمرئ قبول هذه القناعات غير المنسجمة مع الدين الوسطي.. وابتعدنا عن التسامح وعن جادة الاعتدال والاتزان الفكري وشوهنا قناعاتنا الأصيلة.
إن الاختلاف بين المذاهب والفرق الإسلامية أمر ضروري، بل هو رحمة للأمة, لأنه اختلاف في الفروع ناشئ من الاجتهادات والاستنباطات التى يقوم بها الأئمة المجتهدون، فهو لا يضر في شيء إذا كان اختلافًا متنوعًا، يحافظ على المنظومة الكاملة للأمة لا اختلاف صراع وشقاق.
في كل الأوقات الفارقة في التاريخ تمثل الثقافة الربانية والتراث الروحي طوق النجاة للمجتمعات إبان المحن والأزمات، إذن نحن مع الإسلام في جوهره الأصيل، الإسلام البعيد عن التشدد والتزمت والتنطع، ومع التدين الوسطي المعتدل ذات الطبيعية الروحانية؛ فالمسؤولية تقع على عاتق الفهم الخاطئ والتفسير المغلوط للدين والعقلية الأحادية التي لا تقبل بالرأي الآخر فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله".