السبت 3 يونيو 2023 / 08:20

الإمارات ليست في حاجة إلى شركة تأمين

علي الصراف- العرب اللندنية

ليست الإمارات من يقبل الانخراط في تحالف أمني يُستخدم لأغراض أخرى

انسحاب الإمارات من "القوات البحرية المشتركة" التي تقودها الولايات المتحدة في مياه الخليج العربي والبحر الأحمر يستند إلى تصور يتوافق مع إستراتيجيتها الأمنية وسياستها الخارجية القائمتين على أسس التعاون والتعايش السلمي ومد الجسور بين الخصوم، وهو ما توجزه عبارة "تصفير المشاكل" على أفضل وجه. ولكنه يعني شيئاً آخر لعله ليس بأقل أهمية على الإطلاق. وهو أن الإمارات ليست من ذلك النوع الذي يقبل الغرق في النفاق، أو الانخراط في تحالف "أمني" يُستخدم كتعلة لأغراض أخرى. والولايات المتحدة ليست ممن يمكن الثقة به، على أي حال.
وسواء تعلق الأمر بمواجهة إيران أو أيّ قضية دولية أخرى، فإن الولايات المتحدة تخطط لنفسها فقط، وتنظر في اعتبارات مصالحها فقط، وتنفذ ما تراه مناسباً لها فقط. وهذا ما يجعل أيّ تحالف معها، إما خيار المُكره والمضطر مثل الحلف الأطلسي، وإما خيار الباحث عن غطاء.
الإمارات ليست في حاجة إلى هذا ولا إلى ذاك. أهم من ذلك، إنها لا تعيش في "واقع افتراضي" يقول شيئاً ويفعل آخر.
إيران ما تزال تشكل تهديدا لأمن الملاحة البحرية في الخليج. هذا شيء لا جديد فيه. وعندما كانت الظروف مواتية تماما قبل بضع سنوات لكبح هذا التهديد بالقوة فقد تخاذلت الولايات المتحدة ليس عن ردع إيران عندما كانت تشن هجماتها على السفن وتهدد بإغلاق مضيق هرمز فحسب، بل إنها تخاذلت حتى عندما تعرضت قواتها إلى هجمات صاروخية مباشرة من طهران. تخاذلت أكثر عندما أُجبرت على سحب الجزء الأعظم من قواتها من العراق، تحت تهديد الميليشيات ذاتها التي استفادت من دعم واشنطن لها لتولي السلطة بالنيابة عن إيران. وحالما تصبح الظروف أصعب على إيران، فإن وجود القوات الأمريكية في سوريا سيكون هو الهدف التالي. واشنطن تعرف ذلك جيدا جدا. وتتخاذل أمامه. وتحسب “الحساب” ليس لمواجهته – لاحظ المفارقة – وإنما لتنظيم التواطؤ مع إيران فيه!

إذا كان لديك حليف كهذا، يهرب من المواجهة حتى عندما يتعلق الأمر بمصالحه الخاصة، كيف تثق به عندما يتعلق الأمر بأمن دول أخرى؟ وما هو المنطق الذي يبرر أن تمنحه موقع القيادة وأنت تعرف أنه لن يمارس دوره فيه بناء على قراءة مشتركة للمخاطر، وإنما بناء على تقديراته الخاصة، ومصالحه الخاصة.
حتى مع الحلف الأطلسي، فإن الولايات المتحدة تستخدمه لغرضين أساسيين: الأول، هو دعم صناعة السلاح الأميركية، وإملاء تفوقها بما يتوفر لها من موارد "مشتركة". والثاني، هو أن تكون واشنطن بمثابة "شركة تأمين"، تتقاضى أجوراً لمواجهة المخاطر. وعندما تقع المخاطر، فإنها لا تدفع "بوليصة التأمين"، إلا إذا كان النفع من وراء تسديدها أعظم. وهذا هو ما يحصل في أوكرانيا.
لا شك أن الولايات المتحدة هي أكبر داعم عسكري لأوكرانيا. قدمت حتى الآن ما قد يصل إلى 60 مليار دولار من الأسلحة والمعدات العسكرية. يحصل هذا في بيئة أجبرت ألمانيا وحدها على أن تخصص أكثر من 100 مليار دولار لتحديث أسلحتها. دول الاتحاد الأوروبي الأخرى سوف تدفع في النهاية مبلغا مماثلا، أو ربما أكثر. البوليصة يتم دفعها، ولكن فقط عندما أصبح من الممكن أن تحصل شركة التأمين على المزيد والمزيد من الموارد المباشرة.
ضع هذا في الاعتبار، ولن تكون في حاجة إلى أن تنظر إلى المنافع الجانبية الأخرى للحرب في أوكرانيا. فعلى الرغم من كل الضجيج الدعائي حول أسعار النفط والغاز، فما لا يغفل عنه حتى الغافلون، هو أن الولايات المتحدة جنت عوائد من هذه الأسعار أكبر من كل ما جنته دول أوبك مجتمعة.
وعندما يتعلق الأمر بإيران، فالولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، تستخدم "التهديد الإيراني" ليس لمواجهته، وإنما لتحويل التعامل معه إلى "شركة تأمين"! تبيع المخاطر، وتستحصل العوائد منها. حتى لتصبح المخاطر نفسها هي المصلحة الأهم.
أفلا تلاحظ أن الولايات المتحدة تبيع هذه المخاطر منذ أكثر من نصف قرن؟ أفلا تلاحظ أن خطط البنتاغون لـ"ضرب إيران" أكثر من خطط البنتاغون لشراء ورق التواليت؟ أفلا تلاحظ أن إسرائيل تبيع الشيء نفسه، حتى فاضت التواليت بالخطط؟ أفلا تلاحظ، أن إسرائيل هي التي تحرّض إيران على المواجهة والتصعيد، وعلى تصعيد التصعيد، حتى لتعتقد أن الحرب واقعة لا محالة… إنما في أضغاث الأحلام.
وجود قوة بحرية مشتركة في مياه الخليج والبحر الأحمر يوحي بأن الدول الـ34 المشاركة فيها، سوف تخوض مواجهة عسكرية مشتركة مع إيران، لو أنها شنت اعتداءات جديدة على الملاحة في هذين البحرين الحيويين.

إيران، لأجل المفارقات المضحكة، لم تتوقف عن شن اعتداءات! سوى أن "شركة التأمين" لم تفعل شيئا يتعدى مطاردة النوارس، أي سفن الصيد التي تستخدمها إيران لتهريب الأسلحة إلى جماعة الحوثي. وبينما تلقي هذه الشركة القبض على سفينة، فإنها تغض الطرف عن عشر غيرها.
وآخر ما يمكن توقعه هو أن تشن الولايات المتحدة حربا ضد إيران، حتى إذ بلغت تهديداتها حد طرد القوات الأمريكية من المنطقة بأسرها. بل إن واشنطن، في العهدين الجمهوري والديمقراطي معاً، لم تكفّ عن إرسال رسائل التطمين لإيران بسحب بعض معداتها الصاروخية من السعودية.
فعلت ذلك، لتقول ماذا؟
لا حاجة إلى الجواب. ليس لأنه جوابُ تشجيعٍ على التمادي بالنسبة إلى طهران، فحسب، بل لأنه جواب ابتزاز للآخرين من شركة التأمين أيضاً.
هذه المسالك، المنافقة، هي التي علّمت دول المنطقة كيف تسلك الطريق الآخر: طريق الكف عن الرهان على الولايات المتحدة، أو الثقة بها، أو اعتبارها حليفاً يجدر أو يمكن الاعتماد عليه. وهي المسالك نفسها التي أثقلت ميزان دبلوماسية التعايش السلمي ومد الجسور بين الخصوم.
على امتداد نصف القرن الماضي، كانت القاعدة التي تتحرك الدبلوماسية الإماراتية على أساسها، هي أنها "دبلوماسية خير". صنعها الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وأورثها لإخوته وأبنائه. كان ذلك ينطوي على طابعين، أحدهما ديني، والآخر يقدم ما في النفس، لعله يدفع إلى التعامل معه بالمثل.
هذه القاعدة، ما تزال هي نفسها. تغير القليل في عنوانها العريض واتسعت دائرة التفاصيل، ولكن الأصل بقي هو نفسه. وزادته العقلانية وضوحاً. والعقلانية تؤمّن نفسها. والإمارات، بفضل هذه العقلانية، ليست في حاجة إلى شركة تأمين. إنها هي التأمين. وهو تأمين أخلاقي، يقدم الخير ويأمل بمثله.