الثلاثاء 15 يوليو 2014 / 13:14

أين ذهب كنز المخطوطات الذي تركه إسحق نيوتن؟

ترجمة: أحمد شافعي

لدى وفاته في عام 1727، ترك عالم الفيزياء الرائد إسحق نيوتن كنزاً من المخطوطات التي لم يطلع عليها أحد تقريبا طوال حياته. هذه الأوراق التي طال منعها من النشر ـ والحاوية على نحو عشرة ملايين كلمة أو ما يعادل مائة رواية ـ طالما عذَّبت الباحثين؛ فنيوتن لم يترك غير قليل من الأدلة المنشورة على كيفية وصوله إلى اكتشافاته العلمية، فهل لهذه الأوراق الخاصة أن تقدِّم مفتاحا لفهم سر عبقريته؟

غير أن استخلاص الذهب من وسط هذه الأوراق ليس بالمهمة اليسيرة. فهي منفرة تقنيا، ومتعددة الطبائع، كما يليق بنتاج باحث انطوائي ظل يعمل على مدار ستة عقود دون أن يتخلص ولو من قصاصة ورق. وليس أدلَّ على صعوبة هذه المادة من عدم وجود طبعة شاملة لأعمال نيوتن حتى الآن.

ولزيادة الطين بلة، لم يترك نيوتن وصية أو تعليمات بشأن التعامل مع هذه الأوراق، فظل ذلك إهمالاً غريباً منه، لم يتضح تفسيره إلا بعد فهم مدى التهاب محتويات تلك الأوراق. فهي تحتوي أدلة على قناعات نيوتن الهرطقية في ما يتعلق بثالوث الأب الإله، والابن، والروح القدس ـ الذي كان يراه محض فساد روحي. كما يتبين من الأوراق أيضا افتتان نيوتن بالخيمياء وهوسه الشديد بشئون تاريخ الكنيسة ومعتقدها.

في أعقاب موت نيوتن مباشرة، جاء أقاربه بزميل له من الجمعية الملكية ليقيِّم لهم ثروتهم تقييماً سريعاً (فلم يقض هذا الزميل غير ثلاثة أيام بصحبة الورق). وليس غريباً أن حكم بعدم ملاءمتها للنشر إلا القليل للغاية منها. فقد كانت إذاعة تلك الأوراق تهدد صورة نيوتن العامة بوصفه قديساً من قديسي العلم. وسرعان ما قرر ورثته أن أسلم سياسة يتبعونها هي الصمت التام. وهكذا حزمت الأوراق ووضعت في بيت للأسرة حيث بقيت بعيدة إلا عن أنظار القليلين لنحو قرن من الزمن.

غير أن المعرفة بوجودها استمرت، ومرت السنون ولم يتوقف رجاء الباحثين في الإفصاح عن أسرارها. في عام 1841 نظر في الأمر عالم المنطق والرياضيات والمؤرخ الرائد أغسطس دي مورغن، تكلم عن الحاجة إلى متخصص في الخطوط قادر على فك شفرة كتابة نيوتن (على الرغم من جمال خطه ووضوحه)، وتساءل "متى سيحدث أن يجتمع في شخص كونه عالم خطوط وعالم رياضيات، ويتوفر لديه ما يكفي من الطاقة والوقت ليعمل على الخام والمعدن؟" وتشير استعارة دي مورغن إلى ضرورة التنقيب في الأوراق للفصل بين العمل العلمي العبقري والمواد الرديئة ـ وما يقتضيه ذلك من عمل جاد. ولم تسنح فرصة حقيقية إلا في سبعينيات القرن التاسع عشر، عندما قرر إيرل بوتسماوث التبرع بالمادة العلمية لجامعة كمردج.

كانت الأوراق مختلطة اختلاطاً شديداً ـ بين العلمي منها وغير العلمي ـ وبعثت بحالتها تلك إلى كمبريدج حيث تشكلت لجنة لفرزها وتبويبها. وكان رئيس تلك اللجنة هو جون كاوتش آدمز المكتشف المشارك لكوكب نبتون جورج غابرييل ستوكس خليفة نيوتن على مقعد أستاذ لوكاسيان للرياضيات، وفشلت تلك اللجنة فشلاً ذريعاً في التقاط السمة الأساسية في أرشيف نيوتن العظيم: أي البعد اللاهوتي الخيميائي فيه.

ولم يكن ذلك بسبب قلة الوقت المتاح، أو الجهل. فقد استغرقت اللجنة ست عشرة سنة لإتمام مهمتها، وخلال تلك الفترة أضاف ستوكس وآدمز المزيد من الفوضى على الأرشيف، فقد كان ستوكس معروفا بالفوضوية والإسهاب والتكاسل، ونتيجة لذلك اختلطت مخطوطات نيوتن بأوراقه الخاصة التي كان يكدسها على مناضد عديدة في غرفة مكتبه "لا يكاد يفصل بينها غير مسافات ضئيلة يعصر المرء نفسه عصرا ليعبر بينها إن استطاع". كانت على المناضد أكوام يزيد ارتفاعها عن القدم (وكانت زوجة ستوكس تتخلص من "ملء سلال الغسيل من المواد غير الضرورية" (عندما لا يكون زوجها في البيت). ولا عجب وقد استبقى ستوكس أوراق نيوتن طويلا "أن ثارت تخوفات من أن يكون قد نسي هذه الأوراق وأهملها".

أما آدمز فكان محرراً ضعيفاً. وكان معروفاً بنفوره من الكتابة (فأهم حساباته الرياضية كان يجريها في رأسه)، ولم يكن يرضى بغير الكمال. وأوراق نيوتن التي تصدى لها كانت الأوراق ذات الطبيعة العلمية، لا ذات الطبيعة الدينية أو الخيميائية، ولقد أولاها آدمز اهتمامه الكامل. واقتضت منه المسألة سنين، وهو يحل "الألغاز" التي بعثرها الرجل العظيم في "شتات ورقه، دونما مفتاح إلى المصدر الذي استلهمها منه" على حد ما قال صديق لآدمز. وكانت مثل تلك النتيجة مستحيلة على أي شخص آخر ولكن عقل آدمز كان "يتشابه تشابها كبيرا مع عقل نيوتن في كثير من الأوجه".

لكن ليس في جميع الأوجه. فلقد فهم هو وستوكس بعض الشيء عبقرية نيوتن العلمية من خلال أوراقه (فخلصا إلى أنها نتاج عمل شاق لا وحي مفاجئ)، لكنهما عمدا إلى تجاهل ملايين الكلمات في الكتابات الدينية والخيميائية التي تركها الرجل بوصفها "قليلة الأهمية في ذاتها". ولم يحدث إلا في خمسينيات القرن العشرين أن أتيحت كتابات نيوتن ـ العلمية وغير العلمية ـ للمؤرخين المحترفين ذوي المهارة والتصميم على تقييمها تقييما كاملا. وحتى في تلك الحالة كانت المهمة رهيبة.

شاقة هي مهمة تحرير العلمي. وهي مهمة انعزال وتعب وضجر في أغلب الحالات، ونادرا ما يستتبعها تقدير، وعموما لا تحظى إلا بأجر زهيد. وفوق ذلك كله تنطوي على تحديات جسام. وتأويلا لكتابات منقوصة، غامضة، متناقضة في الغالب، لا بد للمحررين من الاقتراب ما استطاعوا ممن يحررون لهم. فعليهم أن يدرسوا ما درسوا ويعرفوا كيف كانوا يفكرون، ثم يكون لزاما عليهم أن يلجموا خيالهم، فلا يفكرون بالنيابة عمن يحررون أعمالهم. فالتحرير العلمي يحتاج أشخاصا شديدي الذكاء يُخضِعون أنفسهم لأشخاص أشد ذكاء.

في حالة نيوتن، العبقري المثالي، تزداد حدة المشكلة. وفي عام 1924 وصف المحرر المحتمل آر آيه سامسن التحدي المتمثل في مخطوطات نيوتن العلمية على النحو التالي: "قبل أن يتولى أحد المهمة ينبغي له أن يرى أنه مرتحل إلى الماضي، إلى ماض بلي الجزء الأكبر منه ومات. فعلى المحرر أن يجعل نفسه تتشرب هذا العالم البائد لسنين، ولعله بعد هذا لا يجد إلى الخروج منه سبيلا".
وحتى بعد ثلاثين عاما، بدا سي آرنيد محرر مراسلات نيوتن متشككا في احتمال نجاحه في المهمة فقال "إن قدرا هائلا، وربما هائلا جدا، من هذه المخطوطات قليل القيمة ... وجدير بأن يرفضه المحررون الحكماء بالكلية، لكن من الصعب أن نفترض أنه ما من كنوز كامنة فيه".

بحلول سبعينيات القرن الماضي، ومع استمرار المحررين في عملهم، تبيَّن أن كتابات نيوتن غير العلمية تشكِّل القدر الأكبر من كتاباته، وأن من المستحيل استبعادها. ففهم نيوتن لم يكن ببساطة مسألة فرز واستبعاد للأعمال غير العلمية، بل لقد بدا حتميا فهم أوجه الارتباط بين العلمي وغير العلمي في تفكيره. فكيف يكون تقييم نيوتن ذي الأوجه المتعددة؟ وما الذي يربط، إن كان ثمة ما يربط، بين تنويعة مواده تلك؟ استبشع البعض فكرة الترابط المحتمل بين العلم واللاهوت والخيمياء، والبعض رأى غياب وحدة الفكر أبشع.

لقد شهدت الثلاثمائة سنة المنصرمة على وفاة نيوتن جدالات محتدمة حول هوية نيوتن ذاتها، وحول ما تكشفه أوراقه هذه عنه. وبعد فترة سعى فيها الباحثون إلى العثور على الروابط بين العلمي وغير العملي في إرثه، أصبح الباحثون اليوم أميل إلى أن نيوتن نفسه كان يقيم حدودا بين أفكاره ومناهجه في مختلف المواضيع. وبرغم هذه المراوحات، يبقى تاريخ الأوراق نفسه حافلا بالوقائع المتكررة، حيث تتكرر الدهشة من الجانب المظلم في شخصية نيوتن الذي اكتشفه الباحثون والمحررون وأعادوا اكتشافه عبر الأجيال، ليتبين أن صورة نيوتن السري، صاحب المعتقدات الغامضة الهرطقية الكامنة وراء ستار صورته العامة، هي صورة سائدة بمثل صورة قديس العلم، وتبقى عملية فرز وتصنيف إرث نيوتن مسألة بالغة المشقة.

ما الذي كان ليخلص إليه نيوتن من ذلك كله؟ لا شك أنه كان ليفزع من وجود أخص أفكاره وأكثرها تشوشاً بين أيدي الباحثين على النحو الحالي. فاليوم أصبحت جميع كتاباته الدينية والخيميائية مرقمنة ومتاحة عبر الإنترنت. ولكن لعل نيوتن ما احتفظ بتلك الأوراق إلا انتظاراً ليوم يقرؤها فيه من هم مهيؤون للقبول بالحقائق الصعبة الواردة فيها. وفي حين لم يأت هذا اليوم بعد، فإن أوراق نيوتن الخاصة مشاع على نحو لا سبيل إلى تغييره.

مقال لسارة درايعن مجلة بروسبكت