الخميس 17 يوليو 2014 / 09:39

دولة حلب- الموصل



ينافي التقليل من جسامة ما يحصل في سوريا والعراق وتداعي بنى الدولة الوطنية في البلدين، مع النظر الموضوعي إلى منطقة المشرق العربي. ويفضي التغاضي عن الخطر الجدي الذي يحمل اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، إلى توقعات عن زواله من تلقاء ذاته.

المتوافر من القراءات للبيئة التي ينشط فيها "داعش" ولمشاريعه المستقبلية ولنظرته إلى قوته وقدراته و"شرعيته" في إعلان الخلافة، ينقض التوقعات المتفائلة ويحيلها رماداً. ومسألة "الدولة" كما يطلق عليها أنصارها، تضرب جذورها عميقاً ليس في "الوعي" الأيديولوجي لحفنة من المتعصبين المستقدمين من أصقاع الأرض المختلفة ليعيثوا فساداً وخراباً في مناطق غير مرحبة بهم، بل إن الأقرب إلى الصواب هو عكس الصورة هذه. وصور عبور عربات "داعش" الحدود بين العراق وسوريا بعد سيطرة التنظيم على الموصل وأجزاء من محافظة نينوى ينبغي أن تُرى عبر منظار أوسع كثيراً من مجرد حدث إضافي من أحداث الفوضى في الحربين الدائرتين في البلدين.

تتعين هنا العودة قليلاً إلى الوراء. ليس إلى اتفاقية "سايكس- بيكو" التي نظمت تقاسم القوتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية للهلال الخصيب ونشأت بمقتضاها دول سوريا والعراق والأردن وفلسطين (الانتدابية)، بل إلى معاهدة سيفر التي فرضت على تركيا العثمانية المهزومة في 1920 قبل أن يلغيها مصطفى كمال أتاتورك بعد سنتين ونيف. والواقع أن التعديلات الكبيرة التي أدخلت على اتفاقية "سايكس- بيكو" في سيفر ثم في الأحداث المعقدة التي أعقبت إلغاء المعاهدة والمناورات الصعبة التي شاركت فيها الدولتان المستعمرتان وتركيا وإيران وغيرها للتوصل إلى رسم الحدود بين سوريا والعراق وتركيا وإسقاط الاقتراح بقيام كيان كردي وضم الموصل إلى العراق وسوى ذلك من أحداث أطنب المؤرخون في الحديث عنها، تقول كلها إن الحدود العراقية- السورية- التركية، رسمت وفق موازين القوى الاقليمية في لحظة بعينها.

بكلمات ثانية، لم تأخذ عملية رسم الحدود تلك الحقائق الراسخة عن العلاقات بين حلب والموصل على سبيل المثال ولا الامتداد السكاني في بادية الشام وحواضرها. بل ألغت كل ذلك متجاهلة أن الدولة العثمانية تعاملت على امتداد قرون مع هذه الوقائع كما هي واكتفت بمراقبتها وتسييرها من دون قسر كبير، باستثناء فترات الحروب مع إيران في العراق والتي قلصت كثيراً من خطرها معاهدة قصر شيرين.

انتهاك النسيج الاجتماعي والاقتصادي في منطقة الموصل-حلب، تكرس مع قيام دولتي الاستقلال في البلدين وخصوصا بعد وصول البعث إلى السلطة في دمشق وبغداد ونشوب الصراعات بين جناحيه. وشهدت المنطقة هذه محاولات كثيرة لاختراق كل طرف للآخر واستنزافه أمنياً وسياسياً. في غضون ذلك كانت تجري عمليات تعريب كثيفة لتطويق المناطق الكردية ومنعها من التخطيط لدولة مستقلة.

باختصار شديد، يمكن القول إن تضافر هذه العوامل وغيرها كحرمان منطقة الجزيرة السورية من كل تنمية واستفادة من النفط الذي كان يستخرج من أراضيها وسياسة حكومة بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين، ساهمت في إلقاء ضوء على عمق الاعتراض الذي تختزنه تلك المنطقة المهمشة على تعامل "المركزين" العراقي والسوري، من جهة، وعلى المستقبل الذي يبدو أنه لن يختلف عن ماضي الإقصاء في البلدين، في رأي قسم وازن من السكان، من جهة ثانية. وعند ظهور "داعش" كان من السهل عليها التأسيس على عوامل الحرمان والخوف على جانبي الحدود.

عليه، اعتبرت "داعش" نفسها دولة ناجزة السيادة تتعامل مع الدول الأخرى من منطلق الندية بل التفوق "الشرعي" بصفتها "الخلافة" التي حلم بعودتها قسم لا يستهان به من المسلمين على مدى قرن من الزمن. من هنا، يمكن فهم التقاطعات التي ظهرت بين "داعش" وبين كل من إيران ونظام بشار الأسد وحالة عدم الاعتداء التي سادت بين مقاتلي "الدولة" وبين الجيش السوري في المناطق التي التصق فيها الجانبان ببعضهما، مقابل القتال المرير الذي كان الطرفان يخوضانه ضد قوات الجيش الحر. جلي أن الحال تبدل بعد سقوط الموصل وظهور فوائد محاربة الإرهاب المتمثل في "داعش"، في عين النظام في دمشق.

يتعين أن يؤخذ هذا الكلام، بدوره، كمساهمة محدود وجزئية، في محاولات فهم ورسم الصورة الاعرض لما يدور في المنطقة والتعرف إلى بعض خلفياته. لكن، في المقابل، ينبغي رفض الاستنتاجات السريعة سواء بنسختها التآمرية أو بنسختها المستمدة من كتب الفقه والشريعة.