الخميس 17 يوليو 2014 / 09:52

الخلافة الداعشية: خمسة أبعاد


يُتاح للمرء أن ينظر إلى الخلافة الداعشية من زوايا شتى، سلوكية ومفهومية وأخلاقية وسياسية؛ توفّر للناظر، في الآن ذاته، مستويات لتفكيك "داعش" ذاتها، من حيث التكوين، وكذلك التبصّر في ماضي هذه "الدولة"، وحاضرها ومستقبلها.

ثمة، بادئ ذي بدء، بُعد كاريكاتوري يخصّ أداء "الخليفة إبراهيم"، دون سواه، في أوّل ظهور إعلامي له على الملأ؛ بعد أن ظلّ، منذ انكشاف زعامته لما سُمّي "دولة الإسلام في العراق والشام"، حبيس اثنتين من أردأ الصور الفوتوغرافية. لقد بدأ بنهي مستمعيه، في الجامع الكبير بمدينة الموصل، عن "شرّ الأمور" التي هي "محدثاتها"، حيث "كلّ محدثة بدعة"، و"كلّ بدعة ضلالة"، و"كلّ ضلالة في النار"... لكنه كان محاطاً بالمحدثات/ البِدع من كلّ حدب وصوب، ابتداءً من الميكروفون الذي يتحدّث عبره، مروراً بالفيديو الذي ينقل صورته، وانتهاءً بساعة يده... سواء أكانت نفيسة أم رخيصة.

لكنّ هذا البُعد الكاريكاتوري، ذاته، لم يقترن بالفكه والسخرية والضحك والمرح؛ بل صعد على منبر الخطابة، في المسجد، مضرّجاً بدماء مئات الأبرياء، في سورية قبل العراق، والطفل والشيخ قبل المرأة والرجل. وبهذا فإنّ انتهاك مفردة "الخلافة" مرّ بعمليات ذبح وسلخ وحزّ رقاب والتهام أكباد، فلم ينقلب الكاريكاتور إلى سيرورة إجرامية دامية، فحسب؛ بل حوّل إعلان "الخلافة"، أو "استخلاف" المفهوم بالقوّة والعنف الوحشي، من كوميديا داكنة السواد، إلى تراجيديا قانية الاحمرار.

في البُعد الثاني، حيث يندمج أقصى النفاق في دعوة الناس إلى "الجهاد"، بأقصى الإيغال في ترويع العباد وممارسة السلب والنهب واللصوصية؛ ثمة "داعش الاستثمارية"، تلك الشركة المتحدة التي تستخرج النفط (في أسوأ أنماط الاستخراج، وأشدّها ضرراً على البيئة والطبيعة والناس)، وتبيعه لكلّ شارٍ، أياً كان. والسذّج، وحدهم أغلب الظنّ، هم الذين يساجلون بأنّ لهذا السلوك التجاري غاية وحيدة هي توفير الأموال اللازمة لشراء الأسلحة والذخائر، فالقصد النفعي هنا ـ بافتراض وجوده، أصلاً ـ ليس مغنم خير في كلّ حال، بل باعث بلاء وإراقة دماء أوّلاً، ومصدر ارتزاق وإثراء.

ولأنّ "الدولة" هذه، في بعد ثالث يمزج استثمار النفط باستثمار الأجندات السياسية والأمنية والعسكرية، ليست "داعش" واحدة، بل سلسلة "دواعش" تعددت وتنوعت، وتغيّرت وتبدّلت، في العراق كما في سورية، ومنذ أبو مصعب الزرقاوي وحتى "الخليفة إبراهيم"؛ فإنّ لكلّ "داعش" زبون محلّي أو إقليمي، عربي أو أعجمي، يدفع لقاء الخدمات التي يمكن أن تؤديها هذه الـ"داعش" أو تلك، هنا أو هناك، ضدّ هذا الخصم أو ذاك الحليف، سيّان... ما دام العقد شريعة المتعاقدين! اليوم تُقدّم الخدمة للنظام السوري، في مدينة الرقة؛ وغداً، لحكومة نوري المالكي، في الرمادي؛ وبين نهار وآخر، يمكن لضباط "الحرس الثوري" الإيراني أن يدفعوا ثمن إعدامات في حلب، أو حصار في الفلوجة...

للمرء، أيضاً، أن يرى ـ ضمن مشهد جيو ـ سياسي أعرض، ونطاق أوسع من حيث تنازع التيارات الجهادية العالمية ـ أنّ صعود "داعش" ليس سوى الوجه الآخر لخسوف المنظمة الأمّ، "القاعدة"، وأفول نجم زعيمها الراهن أيمن الظواهري شخصياً. فالثابت أنّ حكاية "الخلافة"، أو "الاستخلاف" بالأحرى، ليست جديدة على الظواهري، ولم يسبق أن هددت سلطته حين أعلنها الملا عمر في أفغانستان، قبل سنوات. جديد الخلافة الداعشية، والذي ينذر بمحاق "القاعدة"، هو أنّ الظواهري كان قد تبرأ علانية من مشروع البغدادي في دمج "جبهة النصرة" السورية و"داعش"، ولكن البغدادي مضى في مشروعه رغم ذلك، بل ذهب به إلى خطوة تحدٍّ قصوى، فأعلن نفسه خليفة... أعلى سلطة، بالتعريف، من كلّ وأيّ ظواهري!

ويبقى، بالطبع: بُعد أخير: أنّ صعود "داعش" ـ بصفة خاصة، ولكن دون استثناء المنظمات الجهادية الأخرى ـ هو إعلان جديد عن فشل أركان كبرى في فلسفة "الحرب على الإرهاب" التي اعتمدتها إدارتا جورج بوش الابن وباراك أوباما في أمريكا، وانخرطت فيها أوروبا والحلف الأطلسي أيضاً. وليس إرهاب الدولة ـ كما درجت عليه الولايات المتحدة خلال غزو العراق، وفي "أبو غريب" و"غوانتانامو" والسجون الطائرة، والاغتيال بطائرات من غير طيار؛ أو كما درجت عليه إسرائيل، في فلسطين خاصة ـ سوى الغذاء الذي يقتات عليه الإرهاب.

وهذه، بدورها، من "المحدثات" التي ينهى عنها "الخليفة" الهمام، ولكنه عليها يتغذى... صباح مساء!