الأحد 20 أبريل 2014 / 21:06

الجزيرة والإرهاب: 11 سبتمبر نموذجاً (4)


ذكرنا في الحلقة الأولى كيف اجتمعت في برنامج يسري فودة "سري للغاية" على شاشة "الجزيرة"، عناصر الأفلام البوليسية، وتقنيات السينما، على خلفية السجال السياسي، وملاحقة الجاري من الأحداث. وقد تجلت هذه كلها في حلقات البرنامج عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية.

وبقدر ما يعنينا الأمر، في سياق التعليق على الحلقات سالفة الذكر، باعتبارها خطاباً يقبل التحليل بالأدوات والمفاهيم المتداولة في علوم السياسة والأدب، يمكن القول إن الهدف الرئيس، لا المسكوت عنه، بل المنطوق، يتمثل في تمجيد العملية الإرهابية، وتصوير أصحابها لا كإرهابيين، أو حتى ضحايا لفكر أعمى ومتطرّف، بل كشهداء، وأبطال من طراز المسلمين الأوائل، تستوفي سيرة حياتهم شروط الشهادة، في المخيال الديني للعالمين العربي والإسلامي.

يتحقق هذا الأمر، في الحلقات المعنية على ثلاثة مستويات:

أولاً، استراتيجية الانتخاب والإقصاء. وثانياً، ميثولوجيا البطولة. وثالثاً، العثور على مجاز يقبل التعميم. وكلها عناصر رئيسة في فنون الدعاية السوداء. وهذا ما يمكن الاستفاضة في الكلام عنه على النحو التالي:

أولاً، تعتمد استراتيجية الخطاب في الانتخاب والإقصاء، التي تكلّم عنها ميشيل فوكو بعنوان المصرّح به، والمسكوت عنه، على إقصاء جانب ما في سردية بعينها، مقابل التركيز على جوانب أخرى. وفي هذا الصدد، يبدو المسكوت عنه، في تحليل الخطاب، أهم بكثير من المُصرّح به. ففي المسكوت عنه تكمن، بمعنى ما، فضيحة الخطاب.

والمُلاحظ في الحلقات السبع، التي خصصها يسري فودة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، أنها ركّزت على صورة الإرهابيين، وسيرهم الشخصية، وقيمهم الدينية والدنيوية، وأقصت، وسكتت عن، كل ما يمت إلى الضحايا الأميركيين وغيرهم، الذين قضوا في ذلك اليوم، وعددهم يصل إلى ثلاثة آلاف إنسان.

رأينا في حلقات فودة صور الإرهابيين، وسمعنا أصواتهم، وكلاماً عنهم، من أقاربهم، ومن مقدّم البرنامج، ومن معلقين (استضافتهم الجزيرة بناء على اقتراح من "القاعدة") لكننا لم نر وجوه الضحايا، أو عائلاتهم، وبينهم آباء، وأبناء، وبنات، وأزواج وزوجات، ولكل هؤلاء حياة وعلاقات إنسانية واجتماعية فريدة.

غاب هؤلاء وحضر الإرهابيون. وفي حقيقة ما غاب تكمن فضيحة ما حضر. فلو رأينا هؤلاء الضحايا كبشر مثلنا، لا كأرقام، سنفكر في عبثية ولا جدوى المشهد، وفي السلوك العدمي للإرهابيين، وأيديولوجيتهم الدموية. ففي مشهد يحضر فيه الضحايا كبشر مثلنا، ما يستدعي دائماً تأملات إنسانية، وأخلاقية، تدين الإرهاب والإرهابيين.

ثانياً، حاول جوزيف كامبل وضع صورة تقريبية لسيرة وسيرورة ومسيرة البطل، في الميثولوجيا اليونانية القديمة. ويمكن، دائماً، الاستفادة من مخططه التقريبي، طالما أن الميثولوجيا المعاصرة، التي يضخها الإعلام في المخيال العام، لا تختلف في الجوهر، عن النماذج الأصلية (archetype) الأولى.

ثمة، دائماً، بداية غير عادية، وحياة منذورة لما هو أعلى. وهذا ما لا يدركه البطل إلا بعد تلقي الدعوة، أو سماع النداء، وحينها يتوجب عليه إما الاستجابة، أو النكوص. لا تحدث الاستجابة، عادة، دون ممانعة، وهي مشروطة بقبول الرحلة الأسطورية لاكتشاف الحقيقة، أو إنجاز ما عجز عنه تحقيقه آخرون، ثم العودة. والرحلة، بدورها، محفوفة بالمخاطر، والعودة غير مضمونة.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بمحمد عطا، وجماعته الإرهابية، التي نفذت الهجمات، كان على فودة البحث في تاريخ هؤلاء، ومقابلة عائلاتهم، وسماع شهادات الأصدقاء. وخلاصة هذا كله صورة مثالية لأشخاص مثلنا، لكنهم أكثر ورعاً، وتقوى، وحرصاً على الآخرة أكثر من الدنيا. وهذا ما تحقق بعد سماع الدعوة، أي بعدما سطع النور، وأصبحوا أعضاء في تنظيم "القاعدة"، وقبلوا القيام بالعملية الانتحارية.

وفي هذا السياق، بالذات، يتحوّل فودة من صحافي إلى داعية، ومن معلّق على حدث، إلى مخرج سينمائي لأساطير معاصرة، فيؤلف مشهداً أخيراً لمحمد عطا، الذي قضى ليلته الأخيرة قرب المطار، ليقول لنا بصوت مرتعش النبرات: "لا بد أنه كان مزعجاً أزيز الطائرات، تقلع وتهبط قرب نافذته، ولا بد أن صوتاً آخر في قلبه في آخر ليلة من حياته الدنيوية كان أعلى وأحلى وأطيب مما عداه من أصوات".

وفي السياق نفسه، تأخذه الحماسة، فيتصوّر فكرة أخيرة في ذهن محمد عطا، قبل الانقضاض على برجي مركز التجارة العالمي بدقيقة واحدة. يقول فودة: "إنه الآن على بعد دقيقة واحدة من الجنة". وفودة، أيضاً، أنفق الكثير من الدقائق في صناعة ميثولوجيا معاصرة، دموية، وعدمية، تعد أصحابها بالجنة. بطل كامبل، في الميثولوجيا اليونانية القديمة يعود من الرحلة إلى إيثاكا، وبطل يسري فودة يصعد إلى الجنة.

ثالثاً، يتصاعد الخطاب، درامياً، كلما اقترب من ضرورة العثور على مجاز يقبل التعميم. وهذا ما عثر عليه فودة، عندما قارن بين جماعة "القاعدة" الإرهابية في كهوف أفغانستان، وجماعة المسلمين المُهاجرة إلى المدينة تفادياً لبطش قريش.

يقول فودة لعبد الله االنفيسي (الإخواني المشارك في البرنامج بناء على اقتراح من القاعدة: "في الجزء التالي من هذا التحقيق لقاء المهاجرين بالأنصار في طريقهم إلى غزوة مانهاتن أمام أعين القبائل، فأين كان بنو قريظة؟"

يرد عليه النفيسي بالقول إن هؤلاء الناس، ويقصد "القاعدة": "وجدوا أنفسهم مستضعفين، والله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وعد المستضعفين بوراثة الأرض، وبالخلافة، في وعود، وفي بشارات".

فودة: "فهاجروا إذا من مكة التي هي.."

عبد الله النفيسي: "بارك الله فيك، هاجروا فكريا من مكة إلى.."

فودة: "يثرب"

عبد الله النفيسي: "إلى يثرب"

فودة: "التي هي أفغانستان"

عبد الله النفيسي: "التي هي أفغانستان، نعم".

لا يمكن لعاقل أن يصل إلى خلاصة كهذه. ولكن خلاصة كهذه تقبل التفسير إذا وضعنا في الاعتبار حقيقة أن "سري للغاية" كان جزءاً من بضاعة الدعاية السوداء، وفي بحثه عن مجاز يقبل التعميم، لم يجد من طريقة تمجّد "القاعدة" وتُسهم في ترويج بضاعتها الأيديولوجية التكفيرية، والدموية، أكثر من وصف أصحابها بالمسلمين الأوائل، ومقارنة أفغانستان بالمدينة.

أخيراً، هل يملك فودة الحق في رسم صورة مشابهة للإرهابيين الذين فجروا مبنى أمن مديرية الدقهلية؟ وهل يستطيع الكلام عن الإرهابي الذي فجرّ كنيسة القديسين في الإسكندرية باعتباره كان قبل الانفجار "على بعد دقيقة واحدة من الجنة"؟

لا فرق، أيديولوجياً وسياسياً، وحتى تنظيمياً، بين الإرهابيين الذين قاموا بهجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، وبين الإرهابيين الذين يشنون اليوم هجمات على الجيش المصري في سيناء، وعلى المدنيين في مدن مصر المحروسة. فهل يملك أحد الحق في تشبيه هؤلاء بالمسلمين الأوائل، إلا إذا كان مروجاً للإرهاب، وداعية في آلة الدعاية السوداء؟

وهل نملك وسيلة لإحصاء عدد الشباب العرب الذين تأثروا ببرامج مثل "سري للغاية" (وهي مجرد غيض من فيض "الجزيرة") وانخرطوا في أعمال إرهابية، أو تعاطفوا معها؟ هذه أسئلة ضرورية، ومفيدة، في كل كلام محتمل عن علاقة "الجزيرة" بالإرهاب.