الخميس 18 سبتمبر 2014 / 22:14

المزيد من إضعاف القضيّة الفلسطينيّة

 

يوم 14 سبتمبر (أيلول) الجاري، وقفت المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل أمام حشد ضمّ خمسة آلاف شخص تجمّعوا حول بوّابة براندنبرغ الشهيرة في برلين، وقالت: إنّ مكافحة اللاساميّة واجب على كلّ ألمانيّ، وإنّ المائة ألف يهوديّ الذين يعيشون في ألمانيا "كنز وطنيّ"، علماً بأنّه "ما من مؤسّسة يهوديّة في البلد إلاّ وتحظى اليوم بحماية قوّات الشرطة".

حشد براندنبرغ وكلام ميركل جاءا بعد تكاثر التعابير المناهضة لليهود على أثر حرب غزّة. فقد ظهرت شعارات ويافطات نازيّة وشبه نازيّة في التظاهرات التي قامت في معرض التضامن مع غزّة، كما صُبغ بعض الجدران في مدن ألمانيا بعبارات مماثلة.

والحال أنّ بلداناً أوروبيّة أخرى شهدت، منذ بدء تلك الحرب، تعابير وأعمالاً مماثلة، بحيث أصدر وزراء خارجيّة فرنسا وألمانيا وإيطاليا بياناً مشتركاً قويّ اللهجة جاء فيه: "إنّ اللغة اللا ساميّة والعداء لليهود والهجمات على ذوي المعتقد اليهوديّ وعلى مراكزهم الدينيّة، أمور لا مكان لها في مجتمعنا".

واقع الأمر أنّ هذه مسألة بالغة الحساسيّة، لا سيّما وفد انقضت ثلاثة أرباع القرن على نهاية الحرب العالميّة الثانية والكابوس النازيّ. وهو ما يُستحسن بمناصري الحقّ الفلسطينيّ أن ينتبهوا إليه وأن يبذلوا ما أمكن من جهد للتغلّب عليه. فظاهرات العداء لليهود في أوروبا عموماً، وفي ألمانيا على نحو خاصّ، تحتلّ موقعاً يكاد يقارب المحرّم الذي لا يقبل الاستخفاف به بتاتاً. إنّه يتعدّى السياسة وتحالفاتها، على أهميّة ذلك، إلى مسائل الثقافة والضمير ومشاعر الذنب الجمعيّ، أمّا سبب ذلك فمعروف لا صلة له بأيّة مؤامرة: إنّه يضرب جذره في القضاء على ستّة ملايين يهودي على أيدي مسيحيّين أوروبيّين، وخصوصاً ألمان.

وكم كان عديم الحصافة وكثير البلاهة أنّ منظّمة "أيلول الأسود" الشهيرة لم تختر ذات مرّة إلاّ مدينة ألمانيّة لكي تنفّذ عملها الإرهابيّ بحقّ الرياضيّين الإسرائيليّين، على ما شهدت دورة صيف 1972 الأولمبيّة في ميونيخ.

صحيح أنّ السياسات العدوانيّة لدولة إسرائيل ليست بريئة من التسبّب برفع وتائر اللا ساميّة لدى قطاعات شتّى في أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة، بل بإعادة استحضارها في بيئات كانت قد بدأت تشهد ذواءها. لكنّ المؤكّد أيضاً أنّ تطوّرين آخرين لا يقلاّن تأثيراً على الصعيد هذا.

فمن جهة، يتنامى منذ التسعينات تديين القضيّة الفلسطينيّة وتديين تأييدها، الأمر الذي يؤدّي إلى عزلها عن القطاعات التقدّميّة والحديثة والعلمانيّة التي درجت على الانتصار لها، كما يفضي إلى تشبّعها بأدبيّات بعض الحركات الإسلاميّة الراديكاليّة، خصوصاً منها حركة "حماس" الإخوانيّة ذات "الميثاق" اللا ساميّ المعروف.

ومن جهة أخرى، تتحوّل القطاعات المسلمة المهاجرة إلى بلدان أوروبا، والتي هي الأقلّ تعلّماً والأقلّ اندماجاً بدورة الحياة الأوروبيّة، إلى القاعدة الجاهزة الأعرض لتأييد القضيّة الفلسطينيّة بطريقتها، وإلى صبغها بالتالي بصبغتها. ويكفي القول إنّ هذه البيئة هي إيّاها التي تفرز المقاتلين، من انتحاريّين وغير انتحاريّين، ممّن يفدون إلى منطقتنا للقتال مع "داعش" وأخواتها.

والراهن أنّ القضيّة الفلسطينيّة، ولا سيّما بعد الانشطار الذي بات يفصل غزّة عن الضفّة الغربيّة، صارت في غاية الضعف الذي زاده انشغال باقي الشعوب العربيّة بهمومها عنها. فلا يجب، والحال هذه، الإمعان في إضعافها باسم تأييدها!

وفي المعنى هذا، لا بدّ من تجديد القول بالفصل بين مناهضة الصهيونيّة والعداء لليهود، وبأنّ قضيّة الفلسطينيّين قضيّة إنسانيّة ومطلب عادل، لكنّها ليست بحال من الأحوال مسألة انتصار لدين على دين أو لعِرق على عِرق.

لكنّ البائس أنّ تأويلاً كهذا يتحوّل يوماً بعد يوم إلى أضعف التأويلات الرائجة في ساحات التداول الإيديولوجيّ والتعبويّ.