الإثنين 24 نوفمبر 2014 / 19:28

أكيرا كوروساوا

كمبرر للكتابة أو كعذر لاقتحام مجال غريب عليه أو ربما كخوف من أن الكتابة قد لا تعطيه كما أعطاه شريط الفيلم السينمائي، يحكي أكيرا كوروساوا في مقدمة سيرته الذاتية حكاية عن عَرَق الضفدع، وهو مادة دُهْنيَّة كان اليابانيون يستخرجون منها مرهماً لعلاج الجروح والحروق في زمن الحرب العالمية. يصطاد الياباني الضفدع، ويضعه في صندوق صغير تُغَطَّى جدرانه بالمرايا، فيرى الضفدع صورته مُنْعَكسة على المرايا، فيبدأ في إفراز مادته الدُهْنيَّة الشبيهة بالعَرَق. يجمع الصياد الياباني فيما بعد العَرَق الإجباري عن جلد الضفدع بالكشط ثم يغليه لبضعة أيام، وهكذا يحصل على المرهم الثمين. إن الإلحاح على أكيرا كوروساوا في كتابة سيرته الذاتية أشبه بوضعه في غرفة مُغطاة بالمرايا، وتركه وحيداً يتَعَرَّق بما فيه الكفاية ثم يأتي الناشر، ويكشط عن جلده مادة الكتابة، ويُقدمها في كتابٍ كمرهم للقارئ الجريح. قليلة هي الحكايات التي تتمثل موضوع الكتابة بتلك القوة. أولاً: تطغى وحشية الاصطياد قبل أي شيء، وكأنها شرط أولي لوجود الكتابة، وهذا يعني أن الكاتب الضحية بعيد عن أخذ رأيه في عملية الصيد. ثانياً: يتم تهذيب الوحشية إلى خداع عبر تهيئة مناخ زائف للواقع، وبما أن الضفدع في بيئته الواقعية يُفرز عن طيب خاطر مادته الدُهْنيَّة أو عَرَقه كنوع من الاستجابة البيولوجية التي تتناغم مع سلوكيات أبناء جنسه، فإن غرفة المرايا توفر لكوروساوا البيئة الاصطناعية لرؤية من زوايا مختلفة، وهو الخبير في النظر لزوايا الكاميرا، كل ما في الأمر أن الخدعة البريئة وضعتْ كوروساوا، دون أن يدري، أمام الكاميرا بدلاً من الوقوف خلفها، وعادةً يكون كوروساواً قاسياً مع مَنْ يقف أمام الكاميرا فقط لأنه هو نفسه خلفها، وبهذا يزداد إفراز العَرَق. ثالثاً: استعارة المرآة في وصف الكتابة عزيزة على قلب الأدب لا سيما إذا تضاعفتْ إلى مرايا مُتقابلة. أين سيجد أكيرا كوروساو هذا الكم من الضفادع؟

شاهدت أبله أكيرا كوروساوا المأخوذ عن أبله فيودور دوستويفسكي في 1989، وكنتُ حينها في السنة الثانية شعبة سيناريو بالمعهد العالي للسينما، وكنتُ أيضاً قد قرأتُ لدوستويفسكي مذلون مهانون، وفي قبوي، وحلم العم، وقلب ضعيف، والشياطين، والنصف الأول من المراهق، والنصف الثاني من الأبله. هذه الأعمال توفرت أمامي دون اختيار في البيت، وفي مكتبة حلوان العامة، وقبل شراء أعمال دوستويفسكي الكاملة 1993 ثم قراءتها بترتيب كتابتها الزمني. كنتُ قائماً بهوسٍ على نحت دوجما ذوقي الشخصي. وكانت تلك الدوجما كما تصورتها تقوم على مُصَادَرَات جمالية، منها على سبيل المثال، لا يُصْنَع فيلم عظيم من رواية عظيمة. المُصَادَرَة الجمالية مأخوذة من مُشاهَدَات وقراءات كثيرة، لكن المُصَادَرَة لم تكن ثابتة بعد، ولهذا كنتُ مرتبكاً في الحكم على فيلم كوروساوا، ولم أره مرة ثانية إلا بعد 25 سنة، وفي أثناء تلك السنين، قرأتُ الأبله أكثر من مرة قراءة كاملة، ومرات قراءة ناقصة، تقتصر على الجزء الأول ثم تفتر الهمة. بعد المُشَاهَدَة الثانية لفيلم كوروساوا تأكدتُ من أن الدوجما المُؤسَسَة قبل عشرين سنة، أصبحتْ تعمل بشكل جيد وثابت، وها هي السينما لا تحتمل هضاب الأمواج الانفعالية لشخصيات دوستويفسكي. وإذا كان لليابانيين تاريخ عريق في أخلاقيات التواضع، وهو ما يسمح لكوروساوا بلمسه في شخصية الأبله إلا أنه لن يستطيع ولو أخذ شفطة واحدة من بئر المهانة العميقة التي أغرق فيها دوستويفسكي كل شخصياته، المهانة أو الإهانة التي تتجاوز التواضع الياباني الذي هو خطوتها الأولى على الطريق، تسخين الموتور التربو 1800 بقوة سحب 150 حصان بري، خيول بدماء حارة تجري في المساحات الشاسعة بين قلب وعقل السيد فيودور دوستويفسكي. ده إحنا لسة بنقول يا هادي.

انفجر روجويين، صديق الأمير ميشكين، بطل رواية الأبله، ضاحكاً. وكان تعليق الراوي أي دوستويفسكي على ضحكة رجويين هكذا: كان هناك ما يدعو إلى الاستغراب في هذا الفرح المفاجئ، فالرجل حتى ذلك الحين كان لا يزال كئيباً. في فيلم أكيرا كوروساوا تقف الصورة عاجزة أمام تعليق الراوي. الكلمة تستطيع. الصورة لا تستطيع. وإذا لم يجد أكيرا كوروساوا مفراً من الكتابة على شاشة سوداء بين فصول الفيلم، نفس كلمات الراوي التي تقول: كان هناك ما يدعو إلى الاستغراب في هذا الفرح المُفاجئ، فالرجل حتى ذلك الحين كان لا يزال كئيباً، فقد أقر بعجز الصورة في اللحاق بالكلمة.

لا أعرف إن كنت قد شاهَدْتُ بودي جارد كوروساوا قبل التسعينات في التليفزيون أم في السينما إلا أن معلومة غامضة قفزت لرأسي عند مُشاهَدَة الفيلم الأمريكي بودي جارد لكيفين كوستنر ووتني هيوستن، وكانا يخرجان من السينما بعد مُشاهَدَة بودي جارد كوروساوا. كانت اللقطة السريعة لممثل كوروساوا العظيم توشيرو ميفوني، وهو يُخبِّئ يديه داخل الكيمونو، قد ذكَّرتني بأنني اعتقدتُ لفترة طويلة، أن توشيرو ميفوني مقطوع اليدين بالفعل، وهذا يعني أيضاً، أنني لم أر الفيلم كاملاً في السابق بل لربما شاهَدْتُ فقط اللقطات التي يمشي فيها الساموراي مُخبئاً يديه داخل كميِّ الكيمونو، لكن كيف لم تأت الذكرى من مُشاهَدَة الفيلم كاملاً قبل مُشاهَدَة لقطة واحدة عابرة في الفيلم الأمريكي؟ وكيف أيضاً اختلطتْ المعلومة بفيلم كونغ فو شاهدته في السينما قبل ثلاثين سنة، وكان يحمل اسم، ملك السيف الأكتع. ما أذكره من فيلم الكونغ فو، أن البطل كان يضرب خصومه بضفيرته الطويلة التي تطير في الهواء بصوتٍ، كصوت الكرباج، وكانت تضرب أعداءه مثل سيف الساموراي. شعرتُ بالذنب من جمال اللقطات التي يُخرج فيها توشيرو يده من داخل فتحة رقبة الكيمونو، ليهرش رأسه من الخلف، أو ليلعب في ذقنه، مع احترام القيود التي تُفْرَض على يده لخروجها من فتحة رقبة الكيمونو.