الولايات المتحدة فشلت في التفطن إلى أن صدام حسين يتعمد المراوغة  من أجل الحفاظ على "ماء وجهه" أمام خصمه إيران(أرشيف)
الولايات المتحدة فشلت في التفطن إلى أن صدام حسين يتعمد المراوغة من أجل الحفاظ على "ماء وجهه" أمام خصمه إيران(أرشيف)
الأربعاء 26 نوفمبر 2014 / 00:57

أمريكا ولغز الثقافة العربية ومفهوم ماء الوجه

24- فاطمة غنيم

دائماً ما أشارت الولايات المتحدة، من الثورة الإيرانية إلى الربيع العربي، بأصابع الاتهام إلى سوء فهم سياسة الشرق الأوسط وثقافته.

وقد تعرضت دوائر الاستخبارات لانتقادات قوية خصوصاً بسبب ذهنيتها المتمحورة حول الغرب في تحليلها الأطراف الفاعلة المتنوعة تنوع تنظيم القاعدة وصدام حسين.

ومن بين قائمة طويلة من الأخطاء التحليلية، نجد أن مشكلة "التصوير المعكوس" بمعنى استخدام المرء أسسه المنطقية لتفسير أفعال خصمه أو نواياه، هي بلا شك الأكثر شيوعاً.

ماء الوجه العربي
فعلى سبيل المثال، كان يعتبر أنه من الفطنة أن صدام حسين سينكر امتلاك أسلحة دمار شامل إذا لم تكن العراق في حقيقة الأمر تسعى فعلاً إلى الحصول على مثل هذه الأسلحة المثيرة للجدل.

و لم يؤخذ في عين الاعتبار بحال احتمال أن يكون صدام حسين يتعمد المراوغة بشأن قدرات العراق من أجل الحفاظ على "ماء وجهه" أمام خصمه الإقليمي إيران.

كان ذلك مثالاً نموذجيّاً على إخفاق المرء في أن يدخل إلى قرارة نفس خصمه. غطّت عموم الصحف والمدونات تعليقات لا نهاية لها لتوبيخ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على إخفاقها في تعلم اللغات والتعرف على الثقافات وهياكل القوة والعادات والذهنيات الأخرى.

لكن ما لا يدركه إلا قليل من الناس هو أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أدركت هذا القصور منذ نصف قرن بالضبط وسعت إلى علاجه.

فهناك مقال كان مصنفاً ذات يوم كمقال سريّ منشور في مجلة الوكالة الداخلية Studies in Intelligence "داراسات في الاستخبارات" كُتب في عام 1964 وهو الآن متاح على موقع "قانون حرية المعلومات" على الإنترنت التابع للوكالة يكشف عن محاولة مبكرة، وصريحة على نحو لافت للأنظار، لتعريف دلالة "الثقافة العربية" تعريفاً واضحاً. ولا شك أن كاتب المقال، وهو بيتر نافسنغر، لم يكن قط يتوقع أن تتاح هذه الوثيقة في يوم من الأيام للتمحيص العام. فالتقرير مادة مثيرة للجدل على نحو يمكن توقعه.


في عام 1964، كان العالم العربي ما زال ساحة جديدة وغير معروفة نسبيّاً من ساحات قتال الحرب الباردة. بدأ التغلغل السوفيتي في الشرق الأوسط بإبرام صفقة أسلحة بين تشيكوسلوفاكيا والرئيس المصري جمال عبد الناصر في عام 1955، ما أجبر الولايات المتحدة على استعمال براعتها التحليلية في أراضٍ لم يكن لديها بها خبرة كبيرة.

ويعكس المقال الذي رُفعت عنه السريّة الآن ويحمل عنوان "ماء الوجه بين العرب" التحديات التي تصوّر المحللون أنفسهم أنهم يواجهونها والوصفات التي قدموها للتعامل مع "آخَرية" العرب.

تنميط
وكما يوحي عنوان المقال، فإن مجمل الرسالة التي تضمنها التقييم الاستخباراتي كان أن "ماء الوجه" أو الشرف حتمية ثقافية طاغية في المنطقة، بمعنى أنه قيمة تحتل بجانبها كل القيم الأخرى مرتبة ثانوية. وتستحضر مقدمة المقال إلى الأذهان على الفور الاستشراق المتعالي الذي لفت انتباهنا إليه، على نحو مشهور، إدوارد سعيد في كتابه غير المسبوق الذي نشر منذ نحو 40 سنة.

ويستهل نافسنغر تحليله بما يلي:"يقصّ الأمريكيون على أطفالهم قصة جورج واشنطن وكيف أنه بعد أن قطع شجرة الكرز الأثيرة لدى أبيه، كشف عن شخصية من الطراز الأول باعترافه بارتكاب هذه الفعلة. فلو سمع عربي هذه القصة فإنه لن يعجز عن رؤية الجمال الأخلاقي في مثل هذا السلوك فحسب، بل سيتساءل أيضاً عم يجعل أي شخص يجازف بجرح أمانته باعترافه على هذا النحو باقترافه ذنباً".

ولا شك أن هذا التنميط غير دقيق. ففي حين أن الأمريكي أبدى "رغبة لا تتزعزع في مواجهة الحقيقة الموضوعية والواقع"، فإن العربي مٌلزم بالتمسك بالمظهر الاجتماعي المتمثل في عدم اقتراف ذنب"في مجتمع "لا مكان فيه ولا احترام لديه لشخص تُعرف ذنوبه وأخطاؤه على الملأ".
لا يُنكر أحد صحة جزم سعيد بأنه يجري إعلاء "الأنا" الغربية الاستعلائية الموضوعية إعلاءً واضحاً على "الآخر" العربي الدوني غير الموضوعي.

إن شاء الله
نظر نافسنغر إلى العالم العربي، فرأى ثقافة سياسية مجردة، على ما يبدو، من الشجاعة الأدبية، وقد عزا هذا إلى الإسلام الذي يهمين على كل شيء.

"تنقل العقيدة الإسلامية في مجملها الشعور بأن الرب موجود في كل مكان وفي كل شيء وفي الوقت نفسه بعيد جدّاً فوق السموات وبمنأى عن الفرد إلى درجة أن كل الأفعال البشرية وعواقبها ما هي إلا نتائج صنيع الإله".

وقد نوه إلى أن محاولات تعنيف المتدربين العرب كانت في أغلب الأحوال تقابَل باستجابات لا تنم عن التزام معين.

فالعربي "ينبذ كلّاً من اللوم والتقريع بمقولة عابرة هي: من الله. وعند احتجاج المدرب وقوله إن هذا الشيء المعين ينبغي ألا يحدث مجدداً، يرد العربي بقوله في لامبالاة تثير السخط: إن شاء الله".

لكن نظرة أكثر تفصيلاً على المقال تكشف أيضاً عن بعض الشذرات المهمة التي تتجاوز محض استشراقٍ مشوّه للسمعة. فعلى سبيل المثال، يروي نافسنغر قصة "عربي ضبط رجلاً آخر في الفراش مع زوجته، فصوب إليهما مسدساً، لكن بدلاً من إطلاق النار، عرض أن يُخلي سبيل الرجل بشرط أن يبقي هذه العلاقة الغرامية سرّاً". وهو يكتب قائلاً إن "جريمة القتل المزدوجة، التي ربما كانت ستترتب على مثل هذا الموقف في الثقافات الغربية، كانت ستتصدر عناوين الأخبار، وهي نتيجة تتعارض تمام التعارض مع الاعتبارات التي لها أولوية عند الرجل العربي".

 وعلى الرغم من أن مُعظم ما جاء في هذه الوثيقة يؤكد على الطبيعة الدونية للسلوك العربي السياسي والاجتماعي، فإن هذا المثال يبدو نقداً لفردية الغرب المدمرة، على حد قول الدكتورة دينا رزق، والتي تُدرّس الاستخبارات والأمن في جامعة واريك، في تعليق لها نشره موقع "War on the Rocks".

نسبية
الشيء الأهم من ذلك أن نافسنغر يُسلط الضوء على أهمية النسبية الثقافية، مقيماً الحُجة على أن الثقافات الأخرى لا يُمكن أن تُفهم إلا وفقاً لسياقاتها الخاصة ومنظوماتها القيمية.

هذا الاعتراف النظري بـ"الآخَرية" باعتبارها "مختلفة لكن متساوية" كان يعكس على الأرجح تيارات فكرية أوسع في ذلك الزمان من قبيل حركة الحقوق المدنية والتوسيع الدراماتيكي لمنظمة لأمم المتحدة لتضم دولاً جديدة خارجة من تحت عباءة الاستعمار.

الإصابة بأوهام العظمة وادعاء التعرض للاضطهاد وتضخيم الأخطاء عند الآخرين، بدلاً من أخطاء المرء ذاته التي يُريد أن يُخفيها والدعوة المستمرة إلى إحياء المجد الغابر، كل هذا سلوك نمطي يدل على البارانويا، لكنه يتجلى في كل الصحف السياسية العربية وبين الأفراد في الأحاديث اليومية.

ولا يمكن أن يعتبر هذا شاذّاً في الظرف الثقافي العربي. .

إن الغربي الذي يُعجب بقدرته على أن "يستشف محاولات العربي للغشّ والخديعة وأكاذيبه"، عندما يُميز في هذا العربي سمات الشخصية التي تدل في الثقافة الغربية على الإصابة بالبارانويا أو عقدة النقص، إنما يُثبت عدم تقديره مفهوم ماء الوجه في الثقافة العربية.
واضح إقرار نافسنغر بنسبية تعريفات ما هو "سوي"، كما أنه يحذر أيضاً من أن فرض الأطر الثقافية الغربية على السلوك العربي سيُفضي إلى "إحباطات وطرق ومسدودة".

وعلى الرغم من كتابة هذا الكلام منذ نصف قرن من الزمان، فالحقيقة أنه يدهشنا إلى أي مدى ما زال لبعض هذه الأفكار عن "الثقافة العربية" أصداء تتردد.

ففي الأيام الأولى من الصراع السوري، تضمّن أحد أكثر الاقتراحات شعبيةً التي قدمها مراقبون مخضرمون من أمثال باتريك سيل منح الأسد استراتيجية للخروج "المشرّف".

"سي اي ايه" والثقافة العربية
وتتساءل الدكتورة دينا رزق، التي تعتزم إصدار كتابها المقبل بعنوان: "الاستخبارات الغربية والعالم العربي: تحليل الشرق الأسط" “Western Intelligence and the Arab World: Analysing the Middle East” ، عن مطبعة جامعة إدنبره في 2015:"ما الذي يمكننا أن نتعلمه من المحاولات المبكرة، والخرقاء على نحو لا يمكن إنكاره، من جانب السي آي آيه لتصور مفهوم الثقافة العربية؟ وتجيب بقولها حتى يومنا هذا ما زال هناك ميل طاغٍ إلى النظر إلى الثقافة كواقع بديهي، بمعنى أنها توليفة عديمة الملامح من التاريخ والجغرافيا والسياسة تشكّل – إن لم تقرر - في نهاية المطاف كيف يتصرف الناس".

ما أخفقت وكالة الاستخبارات المركزية - على نحو لا يثير الدهشة - في إدراكه هو أن الثقافة مفهوم مرن مرونةً ملحوظةً، بحسب دينا رزق.

فقد أظهر العلم الحديث الطرق المعقدة التي تتفاعل بها مظاهر الثقافة مع كل من السلطة والفعل البشري، فتعيد في غضون ذلك تشكيل تلك الثقافة ذاتها.

والجدير بالملاحظة أن تعريف باتريك بورتر للثقافة بوصفها "معيناً ملتبساً من الأفكار المتعارضة التي يمكن انتقاؤها وتكييفها والتلاعب بها" ترياقٌ ممتاز للتصويرات الجوهرانية والجامدة لمفاهيم الآخَرية في أية صورة. وإن كتابه يذكرنا بقوة بأن الثقافة شيء ضبابي ومائع ومختلف عليه، بأن الثقافة أداة كثيراً ما توظَّف في خدمة أهداف سياسية دائمة التغير.

فمن المدهش، على سبيل المثال، أن الأمثلة الأكثر سفوراً على الاستشراق المعاصر في يومنا هذا، تنبع من داخل الشرق الأوسط نفسه، حيث روّجت النّخب العربية، التي تجل الوضع الراهن وتراهن على بقائه، بصوت عالٍ لفكرة أن شعوب المنطقة "ليس جاهزةً للديمقراطية"، وعلى وجه الخصوص أثناء الفترات الانتقالية المضطربة التي تمخض عنها ما يسمى "الربيع العربي".

وتطرح الدكتورة دينا رزق تساؤلاً آخر مفاده :"أين يكمن التوازن بين الشمولية والحتمية النمطية؟ إذا كانت الأفكار عن الثقافة هي دائماً تركيبات مسيسة من ناحية ما، فهل السعي إلى فهم ثقافي في نهاية المطاف مضيعة للوقت؟ ".

على الرغم مما تبدو عليه محاولات السي آي أيه المبكرة لفهم الثقافة العربية من سذاجة في أعيننا اليوم، فإن هناك شيئاً واحداً مؤكداً، وهو أنه لا يمكن إخضاع افتراضاتنا بشأن "الآخَرية" للنقاش والاختبار إلا من خلال الإعلان عن هذه الافتراضات وصياغتها صياغة واضحة. وتستحضر هذه الوثيقة، لآذاننا السليمة سياسيّاً، التداعيات الفكرية لحك السبورة بالأظافر. لكن هناك يقينا احتمال أكثر إثارة للقلق، وهو أن الافتراضات الضمنية غير المعلنة، إما بشأن التماثل وإما بشأن الآخرية، تحرز مكانة "الفطرة السليمة" في عقول واضعي السياسات والجماهير على حد سواء.