الجمعة 19 ديسمبر 2014 / 22:40

السفينة أقلعت من الميناء..!!



كيف نقرأ سلسلة الاعترافات المتلاحقة بدولة فلسطين في البرلمانات الأوروبية؟

صحيح أن التصويت غير مُلزم لحكومات الدول المعنية. وصحيح، أيضاً، أن التصويت رمزي ما لم يُترجم إلى سياسة رسمية. ومع ذلك، في مجرّد تصويت برلمانات مثل البريطانية، والفرنسية، ما ينطوي على دلالات سياسية بعيدة المدى، ما لم تقع أحداث تعيد خلق الأوراق، وقلب الموازين.

ولعل أهم الدلالات السياسية، في هذا الشأن، أن أوروبا نفد صبرها أولاً، وتحاول تمييز سياستها عن الولايات المتحدة ثانياً، وتُرسل علامات تحذير لإسرائيل ثالثاً. ولا يمكن، بالتأكيد، عزل هذه الدلالات عمّا شهدته، وتشهده، المنطقة من تحوّلات سواء ما تعلّق منها بالربيع العربي وتحوّلاته الدرامية، أو عاصفة الإرهاب الأصولي التي ضربت المنطقة، وكذلك مأزق "عملية السلام" بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي وصلت إلى طريق مسدودة.

يشعر الأوروبيون، لأسباب جغرافية وتاريخية وديمغرافية، أن ما يحدث في المنطقة يمس أمنهم واستقرارهم بصورة مباشرة. فالعالم العربي، والشرق الأوسط، عموماً، أقرب إلى أوروبا منه إلى الولايات المتحدة. وفي أوروبا جاليات عربية، وشرق أوسطية، أصبحت جزءاً من نسيج المجتمعات الأوروبية نفسها، لأسباب تتصل بالعلاقة مع المتروبول الكولونيالي القديم من ناحية، وبالتجارة وحركة البضائع والأسواق، والهجرة الشرعية وغير الشرعية من ناحية ثانية.

وعلى الرغم من حقيقة أن المسألة الفلسطينية لم تعد المشكلة الوحيدة، أو حتى الأكثر إلحاحاً، في حالات بعينها، على قائمة المشاكل التي تزعزع استقرار وأمن المنطقة، إلا أن حلها يمثل مدخلاً إجبارياً لكل محاولة محتملة تستهدف تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، والدولي. وهذا ما اتضح بصورة متزايدة على مدار العقود القليلة الماضية.

وفي السياق نفسه، يبدو أن العقود التي شهدت صعود القوّة الأميركية في المنطقة، والعالم، بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت جزءاً من الماضي الآن. وبالقدر نفسه، يتضح أكثر أن اللحظة التي شهدت استفراد القوّة الأميركية بالعالم، بعد انتهاء الحرب الباردة، كانت قصيرة، ولم يُحسن الأميركيون استغلالها في وضع أسس أكثر ثباتاً لنظام عالمي يسمه الأمن والاستقرار. لذا، يتحسس الأوروبيون طريقهم في عالم لم تتضح ملامحه الرئيسة بعد، لكنه يُحرّض على المبادرة، ويمثل "ما بعد" أميركا في جوانب كثيرة منه.

أخيراً، وبقدر ما يتعلّق الأمر بإسرائيل، لم يعد من قبيل المجازفة، اليوم، القول إن الرومانسية، التي وسمت الموقف الأوروبي العام، حكومات وشعوباً، ولأسباب تاريخية، وثقافية، وسياسية، إزاء الدولة الإسرائيلية، قد أصبحت جزءاً من الماضي الآن. وقد أسهمت التحوّلات اليمينية التي شهدها ويشهدها المجتمع الإسرائيلي نفسه، علاوة على الاحتلال، والاستيطان، والعدوانية، ورعونة فائض القوّة، في تنامي تحفظات الأوروبيين إزاء إسرائيل، وحكمة قادتها السياسيين.

وأذكر في هذا الصدد أنني سمعت، قبل عامين في عاصمة أوروبية، كلاماً من أحد الساسة الأوروبيين البارزين، مفاده أن بعض صنّاع السياسة في الاتحاد الأوروبي يحاولون إقناع الإسرائيليين، بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بكل طريقة محتملة، بما في ذلك إمكانية النظر في انضمام إسرائيل إلى السوق الأوروبية المشتركة. وأن هؤلاء يشعرون باليأس من الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل، ومن تجاهل الأميركيين لما ينجم عن انحيازهم لإسرائيل من نتائج سلبية بعيدة المدى في المنطقة والعالم.

لذا، يمكن النظر إلى كل ما تقدّم باعتباره الإطار العام، الذي تبلورت فيه سلسلة القرارات التي اتخذتها برلمانات أوروبية في الآونة الأخيرة. وفيه، أيضاً، (إضافة إلى أشياء لا يستع المجال لذكرها) يتموضع الجهد السياسي والدبلوماسي الفلسطيني لإلزام المجتمع الدولي، عن طريق الأمم المتحدة، بوضع جدول زمني لإنهاء الاحتلال. وفي السياق نفسه تتجلى المحاولات الأميركية لتفادي استخدام حق النقض في مجلس الأمن مقابل تخفيف نص القرار المُنتظر في المجلس، وعدم تضمينه جداول زمنية محددة. وهذا، على أية حال، عنوان المجابهة السياسية والدبلوماسية في المدى المنظور.

لم يسبق للفلسطينيين أن اقتربوا من حق تقرير المصير كما يحدث الآن. وعلى الرغم من حقيقة أن محاولات الالتفاف الأميركية على مسألة الجدول الزمني تستهدف إجهاض هذا المسعى، إلا أن في مجرد تصويت برلمانات أوروبية على الاعتراف بدولة فلسطين، كما حدث في الآونة الأخيرة، ما يدل على تحوّلات كثيرة، وبعيدة المدى، في الأعماق. لن تتحقق الدولة الفلسطينية غداً، وما تزال في جعبة الأميركيين والإسرائيليين، أكثر من حيلة لإفساد اللعبة، ولكن يمكن القول، اليوم، بطريقة جدية، وأكثر من أي وقت مضى، أن السفينة أقلعت من الميناء.