الجمعة 19 ديسمبر 2014 / 23:25

من هم المثقفون الذين لحقهم ظلم عبدالناصر؟



لم تكن مشكلة عبدالناصر مع المبدعين من المثقفين إذ لم نسمع - خلال عهده- بأن أحداً من هذا الفريق منهم قد تعرض لذلك الظلم الذى افترض د. جلال أمين أنه طالهم في ظل شمولية نظامه وشمولية اليسار الذى تحالف معه خاصة في أواخر عهده، فاعتقل أو قدم للمحاكمة بسبب إبداعه الأدبي والفني، سواء كان قصيدة شعر أو مجموعة قصص قصيرة أو رواية أو فيلماً كتب له السيناريو أو لوحة رسمها.

ولم نسمع أن الحكومة في عهده صادرت أي مصنف من مصنفات هذه الألوان من إبداع المثقفين، إلا في أضيق الحدود التي يمكن تعدادها على سبيل الحصر، كان من بينها اعتقال الشاعر أحمد فؤاد نجم وزميله وملحن أشعاره الفنان الشيخ إمام عيسى بسبب أشعارهما الناقدة للنظام بقسوة، بسبب مسئوليته عن هزيمة 1967، خاصة قصيدة وأغنية "خبطنا تحت بطاطنا/ يا محلى عودة ضباطنا من خط النار" التي ما كاد عبدالناصر يستمع إليها حتى أمر باعتقالهما استناداً لحالة وقانون الطوارئ، إذ اعتبرها تشهيراً بالقوات المسلحة، يهبط بروحها المعنوية إلى الحضيض في وقت كان يعلق كل آماله عليها في إزالة آثار عدوان- أو هزيمة- يونيو وفى استرداد الأرض المحتلة.

وكان ذلك ما حدث أيضاً، مع الشاعر محمود الماحي بسبب تأليفه لقصيدة "تسخالطوبو.. تسخالطوبو/ كشفت كل عيوبه» التي شخص فيها ما اعتبره الأمراض التي لحقت بنظام عبدالناصر وشخصه وأدت إلى الهزيمة وإلى المرض ودفعته للسفر عام 1968 إلى مدينة تسخالطوبو السوفييتية، لكى يعالج - بالمياه المعدنية من إصابته- بتصلب في شرايين الساق.

أما الأعمال الإبداعية الأخرى التي صودرت في عهده، فإن المسئولية عن مصادرتها لا تقع على عاتق النظام بالدرجة الأولي، لكن على عاتق الطرف الثالث الذى لم يعن د.جلال أمين بالبحث عنه أو تحديد دوره فيما أصاب المثقفين المبدعين من ظلم في عهد عبدالناصر وهو التيار المحافظ والرجعى في المجتمع الذى كان يشكل قوة ضغط تسعى لابتزاز النظام، كان يقودها المثقفون المنتمون إليه، متسترين بادعاء الدفاع عن المقدسات الدينية والتصدي لمن يسيئون إليها من الاشتراكيين والملاحدة.

وكان من بين تلك الإبداعات رواية صنع الله إبراهيم الأولى "تلك الرائحة" التي صودرت طبعتها الأولى بدعوى تجاوزها الخطوط الحمراء فيما يتعلق بالآداب العامة وكتاب- "الله والإنسان" الذى ألفه د.مصطفى محمود ودراسة د.لويس عوض التي نشرت بعنوان "في فقه اللغة العربية" وقد اتهمهما المحافظون بالمساس بالمقدسات الدينية الإسلامية، ومن أشهر هذه الأعمال رواية "أولاد حارتنا" التي اتهمها المحافظون بأنها تجسد سيرة الأنبياء والتي تحركت المطالبة بوقف نشرها مسلسلة على صفحات "الأهرام" من اثنين من أقطاب جماعة "الإخوان المسلمين" هما الشيخان محمد الغزالي وسيد سابق اللذان كانا يعملان آنذاك بوزارة الأوقاف، بعد أن انحازا إلى الثورة أثناء الخلاف داخل الجماعة حول الموقف من مجلس قيادة الثورة، وعلى الرغم من ضغوطهما الكبيرة لوقف نشر الرواية، فقد أصر محمد حسنين هيكل على مواصلة نشرها مسلسلة على صفحات "الأهرام" حتى اكتملت. وجرى الاتفاق- مع نجيب نفسه- على ألا ينشرها في كتاب داخل مصر، وظلت محظورة إلى أن نشرت منذ أعوام قليلة بمقدمة كتبها لها المفكر الإسلامي د.أحمد كمال أبو المجد.

وصحيح أن عدداً من المبدعين البارزين أو الذين كانوا شباناً آنذاك، قد اعتقلوا وقدموا للمحاكمة في عهد عبد الناصر كان من بينهم روائيون وشعراء ونقاد وموسيقيون وفنانون تشكيليون مثل عبدالرحمن الخميسي ويوسف إدريس ومحمود السعدني وصلاح حافظ وألفريد فرج وفؤاد حداد ومحسن الخياط وكمال عمار ولويس عوض ومحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وإبراهيم فتحي وداود عزيز وحسن فؤاد ووليم إسحاق وسعد عبدالوهاب.. إلخ.. إلا أن هؤلاء قد اعتقلوا، أو حوكموا أمام مجالس عسكرية- لأسباب لا تتعلق بإبداعاتهم الأدبية أو الفنية، لكن لأنهم كانوا أعضاء في تنظيمات يسارية سرية معارضة للحكم، وأحياناً مؤيدة له.

وهنا نأتي إلى جوهر "الظلم" - بتعبير د.جلال أمين.. الذى أصاب المثقفين في عهد عبد الناصر والذى اقتصر على مصادرة حرية الفكر والتنظيم السياسي، ولم يطل حرية الإبداع الأدبي والفني إلاّ في حدود ضيقة واتخذ من هذه الشريحة من المثقفين- بالمعنى الأكثر اتساعاً للمصطلح- التي تتبنى رؤى سياسية وأيديولوجية معادية أو مختلفة مع رؤى العهد الناصري وتسعى لتحقيقها عبر إنشاء وإدارة والاشتراك في عضوية تنظيمات سياسية، هدفاً لعدوان نظامه ومطارداته التي وصلت - على يد أجهزة الأمن المقتدرة التي أسسها- إلى حد التعذيب والقتل.

ما يلفت النظر في موقف نظام عبد الناصر من هؤلاء أن عداءه كان ينصب بالأساس على فكرة التنظيم الحزبي سواء كان هذا التنظيم يسارياً أو يمينياً أو كان يمارس معارضته له بأسلوب سلمي، أو بوسائل عنيفة وأنه كان يتوجه بالدرجة الأولى نحو القوى السياسية التي برز دورها على الساحة السياسية المصرية بعد الحرب العالمية الثانية ومهدت الأرض أمام نجاح ثورة 23 يوليو، وبالذات الشيوعيين والإخوان المسلمين على ما بينهما من اختلاف في الرؤى وفى أسلوب المعارضة.

صحيح أن عبد الناصر كان ينظر في بداية الثورة بحساسية بالغة تجاه حزب الوفد وزعامة مصطفى النحاس ويسعى لتحطيم شعبية الحزب وزعامة رئيسه، إلا أن الشعبية الجارفة التي حققتها ثورة يوليو بقيادته ووصلت إلى ذروتها بعد قرار تأميم قناة السويس أقنعته بأن "الوفد" وغيره من الأحزاب التقليدية أصبحت نموراً من ورق، وأن الخطر الذى يتعرض له نظامه يأتي من المنافسين الجدد على وراثة شعبية الوفد فاتجهت ضرباته نحو هؤلاء، وكان الهدف هو تحطيم كل شكل من أشكال التنظيم المستقل عن هذا النظام سواء كان حزبا أو جماعة أو نقابة وسواء كان مؤيداً له أو معارضاً.

ومن الإنصاف لكل الأطراف أن نقول إن الجيل الذى كان ينتمى إليه عبد الناصر والذى ولد على مشارف ثورة 1919 وأثناءها وبعدها، لم يكن بعيداً عن هذه الرؤية وأن الذين كانوا يعارضونه لم يكونوا يختلفون عنه كثيراً، إذ كانوا مثله قد تأثروا بغواية الصعود السريع الذى حققته الفاشية والنازية والأتاتوركية والستالينية، التي تمكنت كلها خلال سنوات قليلة من إعادة بناء بلادها التي لحقت بها الهزيمة في الحرب العالمية الأولى بفضل تخليها عن الديمقراطية التقليدية، وعن التعددية الحزبية التي ساد الاعتقاد الخاطئ أيامها أنها تبدد طاقة الشعوب وتفتت وحدتها الوطنية وتعرقل جهدها لإعادة بناء أوطان استنزفها الاستعمار وحال دون تقدمها.. وهى رؤية لم تكن تقتصر على عبدالناصر دون معارضيه من الشيوعيين والإخوان المسلمين، بل كانت تشمل كل القوى الثورية الجديدة في العالم العربي آنذاك من الشيوعيين إلى الإخوان المسلمين، ومن حزب البعث- الذي كان د.جلال أمين نفسه أحد قيادات فرعه القطري في مصر- إلى الحزب القومي السوري ومن حزب الكتائب إلى حزب النجادة.

وإذا كان من الظلم لهذه الحقبة من تاريخ الوطن أن ننكر عليها كل إنجاز حققته وأن نكتفى برؤية نصف الكوب الفارغ، فمن الظلم للحقيقة التاريخية أن ننكر كذلك أن هذا الأسلوب في الحكم هو الذى انتهى بتحطيم النظم التي اتبعته ومن بينها النظام الناصري وهو الذى قادنا إلى ما نحن فيه.