الخميس 15 يناير 2015 / 00:34

سلافوي جيجيك: ما العلاقة بين الأصولية الدينية والديمقراطية الليبرالية؟

ترجمة: أحمد شافعي

أكد المفكر والناقد السلوفيني سلافوي جيجيك في مقال له بـ نيوستيتسمان نحتاج إليه بصورة أدعى من شيطنة الإرهابيين بخرافاتهم الانتحارية البطولية هو أن نفضح هذه الأسطورة الشيطانية، ملقياً بهذا الدور على الليبرالية واليسار. وهنا نص المقال

الآن، ونحن نعيش جميعا حالة الصدمة التالية لحفلة القتل في مقر شارلي إبدو، نعيش أيضاً اللحظة التي ينبغي أن نستجمع فيها الشجاعة اللازمة لـ التفكير. علينا، بطبيعة الحال، أن ندين بسفور أعمال القتل بوصفها هجوماً على جوهر حرياتنا الأصيل، وندينها دون إضمار أعذار (من قبيل أن "شارلي إبدو كانت أيضا تستفز المسلمين وتسيء إليهم أبلغ الإساءة"). ولكن مشاعر التضامن المطلق هذه غير كافية ـ علينا أن نفكر في ما بعد ذلك.

ولا علاقة للتفكير الذي أعنيه من قريب أو بعيد بالنظرة النسبية الرخيصة للجريمة (من قبيل التسبيحة الشهيرة: من نحن في الغرب حتى ندين هذه الأعمال ونحن من نحن من مرتكبي أشنع الجرائم في العالم الثالث؟". وليست له علاقة بالخوف المَرَضي لدى كثير من اليساريين اللبراليين في الغرب من الإدانة برهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا). فكل انتقاد للإسلام ـ في نظر هؤلاء اليساريين الزائفين ـ مدان بكونه تعبيراً عن رهاب الإسلام لدى الغرب، فسلمان رشدي مدان لاستفزازه المسلمين بلا داع، ومن ثم بالمسئولية (ولو الجزئية على الأقل) عن فتوى إهدار دمه، إلى آخر ذلك. فنتيجة ذلك الموقف لا تخرج عما يتوقعه المرء في هذه الحالات: وهو أنه كلما أمعن اليساريون في الغرب في الاعتراف بذنبهم، ازداد اتهام الأصوليين الإسلاميين لهم بالنفاق وإضمار الكراهية للإسلام. هذا المزيج يفرز بصورة مثالية مفارقة الأنا الأعلى: كلما أطعت ما يمليه عليك الآخرون، ازددت إحساساً بالذنب. وكأنك كلما تسامحت مع المتشددين الإسلاميبم، ازدادوا ضغطاً عليك .

لذلك لا تبدو لي كافية دعاوى الاعتدال المستشرية وسط سطور مقالة سيمون جينكنز (في الجارديان في السابع من يناير) التي قال فيها إن مهمتنا الآن هي "ألا نفْرِط في رد الفعل، وألا نفرط في الترويج لتوابع [الحدث]. بل أن نعامل كل حدث بوصفه حادثة إرهابية عابرة"، لولا أن الهجوم على شارلي إبدو لم يكن مجرد "حادثة إرهابية عابرة"، فقد اتبع أجندة دينية وسياسية محددة ومن ثم فقد كان جزءاً من نمط أكبر بكثير. ولا ينبغي لنا بالطبع أن نفرط في رد الفعل، لو أن الإفراط هنا معناه الاستسلام لرهاب الراديكالية العمياء، بل علينا أن نُعمِل التحليل بلا شفقة في هذا النمط.

فما نحتاج إليه بصورة أدعى من شيطنة الإرهابيين بخرافاتهم الانتحارية البطولية هو أن نفضح هذه الأسطورة الشيطانية. ولقد أدرك فريدرتش نيتشه قديماً كيف أن الحضارة الغربية تمضي باتجاه "الإنسان الأخير"، ذلك المخلوق الفاتر عديم الشعور والالتزام. ذلك الذي في عجزه عن الحلم، وضجره من الحياة، لا يخاطر، ولا ينشد غير الدعة والأمان والتعبير عن التسامح بينه وبين الآخرين: "قليل من السم بين الحين والآخر: ذلك يكفي الأحلام اللذيذة. ثم كثير من السم في النهاية: ذلك يكفي الموت اللذيذ. ينالون لذَّاتهم الضئيلة بالنهار، ولذاتهم الضئيلة بالليل، ويحرصون على صحتهم. ويقول الإنسان الأخير ’لقد اكتشفنا السعادة’ فتطرف أجفانهم".

قد يبدو فعلياً أن الهوة القائمة بين العالم الأول المتساهل ورد الفعل الأصولي عليه يتوازي أكثر فأكثر مع التعارض بين عيش حياة طويلة مشبعة مليئة بالثروة المادية والثقافية وبين تكريس المرء حياته لقضية سامية. أليس هذا العداء كالذي بين ما أسماه نيتشه بالعدمية "السلبية" و"الإيجابية"؟ فنحن في الغرب بشر نيتشة الأواخر المنغمسين في الملذات اليومية البلهاء، بينما الراديكاليون الإسلاميون هم المستعدون للمخاطرة بكل شيء، المنخرطون في النضال إلى حد تدمير أنفسهم. وتبدو قصيدة "المجيء الثاني" لوليم بتلر ييتس مثالية في توصيف مأزقنا الراهن إن ترى أن "أفضل [الناس] تنقصهم العقيدة، بينما الأسوأ ممتلئون بالقوة العاطفية". هذا وصف ممتاز للهوة الراهنة بين اللبراليين المصابين بفقر الدم والأصوليين ذوي العاطفة المشبوبة. لم يعد "الأفضل" قادرين على الاشتباك التام، بينما "الأسوأ" منخرطون في تعصب عنصري ديني جنسي.

ولكن، هل يلائم الوصف حقاً الأصوليين الإرهابيين؟ إن ما ينقص هؤلاء بوضوح يتمثل في سمة يسهل العثور عليها في جميع الأصوليين الأصلاء من البوذيين في التبت إلى الأميشيين في الولايات المتحدة: ينقصهم غياب الامتعاض والحسد، تنقصهم اللامبالاة العميقة بطريقة حياة غير المؤمنين. فلو أن من يوصفون بالأصوليين اليوم يؤمنون حقاً أنهم عثروا على طريق الحقيقة، فأي تهديد يمثله لهم غير المؤمنين، ولماذا يحسدونهم؟ إن البوذي إذ يرى المتعوي الغربي فإنه لا يدينه في كثير أو قليل. إنما يلاحظ في عطف أن بحث المتعوي عن السعادة محكوم عليه بالهزيمة. وخلافاً للأصوليين الحقيقيين، ترى في مدعي الأصولية الإرهابيين إحساساً عميقاً بالضيق والافتتان بالحياة الآثمة التي يعيشها غير المؤمنين. وإن المرء يستشعر ذلك في مقاتلتهم الآخر الآثم، فهم لا يقاتلون فيه إلا غوايتهم.

وهنا يعجز تشخيص ييتس عن وصف المأزق الراهن: فالقوة العاطفية لدى الإرهابيين شاهد على غياب القناعة الحقيقية. فكم يكون هشاً إيمان المسلم لو أنه يستشعر خطراً في كاريكاتير أبله في جريدة أسبوعية ساخرة؟ إن الإرهاب الإسلامي الأصولي لا يقف على أرضية قناعة الإرهابيين بأفضليتهم ورغبتهم في تأمين هويتهم الدينية الثقافية من هجمة الحضارة الاستهلاكية العالمية. ومشكلة الإرهابيين لا تكمن في أننا نعتبرهم أدنى منا، بل بالأحرى في أنهم في قرارة أنفسهم يعتبرون أنفسهم الأدنى. ولذلك فإن تأكيداتنا بأننا لا نشعر بأفضليتنا عليهم ـ وهي تأكيدات منطوية على تنازل من جانبنا، وصحيحة من الناحية السياسية ـ لا تزيدهم إلا غضباً، وتزكي نار استيائهم. وليست المشكلة اختلافاً ثقافياً (كالحفاظ على هويتهم)، بل الحقيقة المناقضة وهي أن الأصوليين بالفعل مثلنا، فهم استوعبوا معاييرنا سراً في أنفسهم ويقيسون أنفسهم عليها. والمفارقة، أن ما ينقص الأصوليين بحق هو جرعة من القناعة "العنصرية" الحقيقية بأفضليتهم.

وما التحول الذي طرأ حديثاً على الأصولية الإسلامية إلا تأكيد لرأي فالتر بنيامين القديم الثاقب بأن "كل صعود للفاشية هو شاهد على ثورة فاشلة": فصعود الفاشية هو فشل اليسار، وهو في الوقت نفسه دليل على أنه كان ثمة إمكانية ثورية وغضب ولكن اليسار في فشل في تطويرهما. فهل لا ينطبق ذلك على ما يوصف اليوم بالفاشية الإسلامية؟ أليس صعود الإسلامية الراديكالية ذا علاقة باختفاء اليسار العلماني في الدول الإسلامية؟ لقد حدث حينما استولت طالبان في عام 2009 على وادي سوات في باكستان أن أوردت نيويورك تايمز أنهم قاموا "بثورة طبقية تستغل الفجوات العميقة القائمة بين حفنة من ملاك الأرض الأثرياء والسكان معدومي الأرض". غير أنه لو كان الطالبان بـ "استغلالهم" معاناة المزارعين "يلفتون النظر إلى تهديدات محيقة بباكستان لكونها إقطاعية إلى حد كبير" فما الذي يمنع الديمقراطيين اللبراليين في باكستان والولايات المتحدة بالمثل أن "يستغلوا" معاناة المزارعين معدومي الأرض ويساعدونهم؟ الإيحاء الضمني المؤسف الذي تنطوي عليه هذه الحقيقة هي أن القوى الإقطاعية في باكستان تمثل "الحليف الحقيقي" للديمقراطية اللبرالية.

فماذا عن قيم الليبرالية الجوهرية: الحرية والمساواة وما إلى ذلك؟ المفارقة أن الليبرالية نفسها تفتقر إلى القوة اللازمة لإنقاذ هذه القيم من هجوم الأصولية. فالأصولية رد فعل ـ رد فعل زائف غامض بالطبع ـ على عيب حقيقي في الليبرالية، ولذلك فإنها تتولد أكثر فأكثر عن الليبرالية. والليبرالية إن تُركت لنفسها فسوف تدمر نفسها ببطء، وليس من سبيل إلى الحفاظ على قيمها الجوهرية إلا في تجدد قوة اليسار. ولكي تبقى هذه التركة المهمة، تحتاج الليبرالية إلى عون أخوي من اليسار الراديكالي. وهذا هو السبيل الوحيد لإنزال الهزيمة بالأصولية، وسحب الأرض من تحت أقدامها.

إن التفكير في ضوء أعمال القتال التي شهدتها باريس يعني التوقف عن الرضا الأنيق عن الذات الذي يتسم به الليبراليون المتسامحون والقبول بأن الصراع بين التسامح اللبرالي والأصولية هو صراع زائف ـ فما هو إلا حلقة مفرغة فيها قطبان كل منهما شرط لوجود الآخر. وما قاله ماكس هوركهايمر في الثلاثينيات من القرن الماضي عن الفاشية والرأسمالية، وهو أن من لا يريدون انتقاد الرأسمالية عليهم أن يصمتوا عن الفاشية، ينطبق اليوم على الأصولية: فمن لا يريدون انتقاد الديمقراطية الليبرالية عليهم أن يصمتوا عن الأصولية الدينية.