الأربعاء 4 مارس 2015 / 18:38

ما قبل تحطيم التماثيل وما بعده...


احتجّ "المؤمنون المستنيرون" – بحسب تسمية شائعة منذ سنوات – على هدم التماثيل في متحف الموصل وفي سواه. فقد رأوا أنّ هذا العمل ليس موجّهاً ضدّ أصنام تُعبد، إذ ما من أحد اليوم يعبد الثور الأشوريّ المجنّح كما كان أهل الجاهليّة يعبدون هُبل.

ورأى آخرون، ممّن هم أكثر عناية بالتاريخ، أنّ تدمير الآثار يرقى إلى تعبير رمزيّ عن غلبة الطرف الذي دمّرها، وهو هنا "تنظيم الدولة الإسلاميّة"، أو "داعش". فالمنتصرون أرادوا، بفعلهم هذا، أن يقولوا إنّهم هم السلطة، ولا أحد سواهم، وإنّهم هم بدء التاريخ وعصارة المعنى، وليس مَن كانوا قبلهم. وفي هذا المعنى فإنّ فعلهم السلطويّ البدائيّ هذا لم يردعهم ظاهره الإيديولوجيّ عن سرقة آثار أخرى خفّ حملها، والمتاجرة بها عبر التهريب، تسميناً منهم لجيوب التنظيم الذي ينتمون إليه.

وفي ساحة الاعتراض على هذا الفعل الهمجيّ، ارتفعت أصوات أخرى تندّد بـ "داعش" من زاوية أنّ فعلتها إنّما تجرّد العرب والمسلمين من بعض ذاكرتهم التاريخيّة وتمعن في نسف الجسور التي تربطهم بـ "الحضارة"، وتالياً بالمستقبل.

لكنْ إلى هذا وذاك من الحجج الصائبة، يتراءى أنّ أبرز ما كشفته عمليّة متحف الموصل يطال طبيعة العلاقة بالزمن. ذاك أنّ فكرة المتحف أصلاً، وفي عدادها اقتناء الآثار والاعتناء بها، إنّما نشأت أساساً كتعبير عن مفهوم متحوّل وغير دائريّ للزمن، كما عن الإقرار بخطّ فاصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. وبموجب هذا التصوّر الحديث، أعيد اكتشاف الماضي ككيان مستقلّ ومتحوّل في آن، إذ التطوّر المستمرّ هو القانون الأوّل الذي يحكم مسيرة الحداثة. في المقابل، فالزمن – تبعاً لعقل ما قبل الحداثة – لا يتقدّم إلاّ كقطعة واحدة لا يخترقها التغيير ولا يعرّضها التاريخ إلاّ للحظة مهيبة واحدة هي التي شهدت انبثاق الحقيقة وسطوع الحقّ.

وفي هذا المعنى لم يكن بلا دلالة أنّنا، في هذا الشطر من العالم، قد تعلّمنا من الغرب الحديث، بين ما تعلّمناه، فكرة دراسة الماضي وممارسة بناء المتاحف وصيانة الآثار. ومعروفٌ أنّ الاستعمارين الفرنسيّ والبريطانيّ نقلا معهما الكثير من آثار منطقتنا إلى متاحف باريس ولندن، خصوصاً اللوفر والمتحف البريطانيّ. وهناك حظيت آثارنا، ولا تزال تحظى، بعناية منقطعة النظير تشي بدرجة تقدير الغربيّين للآثار، من ضمن تصوّرهم الحديث عن الزمن، وفي إطار اكتشافهم للحضارات القديمة وتعريفهم بها.

وقصارى القول إنّ الذي لا يملك تصوّراً عن الماضي، وقد لا يميّز بين عبادة هبل واللات وعدم عبادة الثور المجنّح، والذي يمضي في خوضه الحروب والحروب الأهليّة التي تتطلّب تدمير كلّ ما سبق ورفع رايات النصر ورموزه...، لا ينبغي أن توضع بين يديه، أو تحت سلطته، آثار. ذاك أنّ الذي يتّسم بمواصفات سالبة كتلك المذكورة أعلاه لا تعني له الآثار سوى أمرين: أن تكون مادّة للسرقة والتهريب، أو أن تكون مادّة للتكسير.

من هنا يمكن أن نهنّىء الآثار التي سرقها الغرب فحافظ عليها وصانها، وأن نهنّىء الشعوب التي سرق الغرب آثارها، ليس فقط لأنّه حفظ لها ذاكراتها، بل أيضاً لأنّه حفظ لها فهماً للزمن قد تعود إليه حين يعود إليها رشدها ذات يوم!