الجمعة 27 مارس 2015 / 23:31

تذكرة و رابطة عنق


شاب أحضر لنفسه وخطيبته تذكرتين لحفل عمر خيرت، لحظات اللطافة التي صنعت من أجلها فترة الخطوبة، على الباب رجل الأمن يخبرهما أنهما لن يستطيعا حضور الحفل، لأن العريس لا يرتدى كرافتة. على جانبي مدخل باب المسرح الكبير كان هناك عديد من هؤلاء الكوبلز يفكرون في حل للسهرة التي أفسدتها قوانين الأوبرا، نجوت من هذا الموقف، لأنني أصلاً لم يسبق لي أن حصلت على تذكرة لحفل عمر خيرت، فهي تنفد فور فتح الشباك. حصلت اليوم على تذكرة هدية من شقيقتي مع تنبيه على موضوع الكرافتة التي استعرتها مربوطة من قريب لي. كنت أتمنى للثنائيات التي أفسدت الكرافتة سهرتهم ساعتين أفضل في مكان ألطف، بينما عمر خيرت يدخل على الجمهور دخلة واحد من العائلة.

كان النصف الأول من الحفل طارداً لواحد مثلى بأن اختارت الأوبرا أن تقدم السيمفونية الثالثة للموسيقار أبو بكر خيرت في ذكراه، ساعة أو أكثر تُعزف موسيقى كلاسيكية لا تعبر عنى أبداً، ووقعها على شخصي -مع كامل احترامي للموسيقار الكبير- يشبه وقع محتوى مجلد "شخصية مصر" لجمال حمدان على روح الكابتن إبراهيم سعيد، كان لدىّ مشكلة حقيقة في التصفيق للعازفين خلال هذه الفترة، فأنا أستعجل التصفيق لأقول للعازفين إنه "تمام، الرسالة وصلت، خلاص بقى.. خلاص"، كنت أترقب قفلات الجمل الموسيقية، لكن شتان بين ما تعوّد عليه الواحد من قفلات موسيقية لأغاني عبد الغنى السيد، وقفلات الكلاسيكيات. كانت المزيكا تخفت تماماً فأصفق، أصفق وحدي، فالوصلة لم تنتهِ، وهناك عزف منفرد يأتي من بعيد عبارة عن نقر على أوتار الكمان يمهد لدخول صارخ، ينظر لي رواد الحفل نظرة تأفف، في مرة كنت متأكداً أن الموسيقى توقفت تماما فصفقت، فأمال الشخص الجالس أمامي رأسه إلى الخلف قائلاً: "لسه.. لسه".

عمر خيرت كان أول عزف منفرد في حياة الواحد، لم تشهد الطفولة حرصاً على سماع موسيقى مجردة إلا مع مقطوعة "قضية عم أحمد"، التي نجحت أكثر من عم أحمد نفسه، ومن يومها وهو يحتل مساحات جديدة في وجدان الواحد، كنت أظنها مساحات شاسعة إلى أن اكتشفت أن فقرة عمر خيرت كلها بكل ما عزفه فيها لم تستغرق سوى خمسين دقيقة، إذا استثنينا المقطوعات التي ألح الجمهور على سماعها مرة أخرى، كل هذا الحضور لعمر خيرت "مايكملش ساعة على بعضها"، هذا هو نصيب الرجل من سنوات عمرى.. ساعة. هناك من قضى في حياة الواحد أعواماً طويلة وخرج دون أثر يُذكر، لكن ساعة واحدة من هذا الرجل جعلت الواحد يسترجع شريط حياته مرة بالضحك، ومرة بالشجن، ومرة بالانبهار، لدرجة أنني شممت داخل المسرح رائحة طلاء الأظافر الحادة التي لصقت بها شريط "قضية عم أحمد"، عندما انقطع داخل الكاسيت منذ خمسة وعشرين عاماً، ما كل هذا السحر؟

تفتحت المسام كلها على يد خيرت، خرجت من المسرح أتمشى بلا هدف إلى أن شعرت بالجوع، فطلبت كميات من الكبدة والسجق تسمح لروحي المحلقة بعيداً بأن تعود إلى الأرض مجدداً، كنت أتناول طعامي وموسيقى خيرت تطن في أذني بقوة، وكنت أحاول طول الوقت أن أحبس دموعي، ولم أعرف بالضبط إن كانت دموع الموسيقى التي تغلغلت في روحي، أم أنها دموع الشطة الزائدة في السجق الإسكندراني.