الأحد 26 أبريل 2015 / 11:23

حكاية مع الخال...



... سوف أراجع اجندتي، وأحدد الموعد المناسب لتلبية دعوتكم الحميمة، فأنا أحب سوريا، وأتشوق لأمسيات حلب.
حين دخلت صالون شقته في القاهرة، سمعته يقول هذا الكلام لوفد جاء خصيصاً من الشهباء لدعوته، فالجمهور الحلبي الذواق يطلب الأبنودي بإلحاح.

ما إن غادر الوفد الحلبي صالون الخال، تفرّغ للترحيب بي، وللأبنودي كيمياء متفردة سرعان ما تشدك إليه، فتستمتع بكلامه الصعيدي الهادئ المتأني، جال بنظره على جدران الصالون وكأنه يدعوني لمشاهدة الصور العائلية الحميمة التي جمعته بمحمود درويش، أكثر من ثلاث صور على ما أذكر، قلت له وهو يعرف جيداً صلة الصداقة التي تربطني بدرويش:
.. إن محمود يعتبر بيتك في القاهرة واحداً من الثوابت، فلا يعترف بزيارة لا تبدأ من هذا البيت ولا تنتهي بسهرة وعشاء مع شلة الأصدقاء المشتركين.

هز برأسه معبراً عن تأكده مما أقول، لم يكن بحاجة لسؤالي عن صحته وأحواله وعشقه، فهو على صلة دائمة به، ويعرف عن محمود درويش أكثر مما أعرف أنا..
- هل تسمع لي يا خال، بإبداء رأيي فيما سمعت من الوفد الحلبي؟
- تفضل..
- إذا كانت الصحة تسمح، فأرجوك أن تلبي الدعوة وأن تشترط على الحلبيين إقامة أمسيات وندوات في كل المدن السورية، ولا تنس مخيماً فلسطيناً، فالسوريون من أكثر الشعوب شغفا بالشعر وأنت تعرف ذلك.
- سأعمل كل ما باستطاعتي لتلبية الدعوة .
- بصراحة يا خال، إن الوفد الحلبي شجعني على أن اعتبر نفسي وفداً يدعوك لزيارة فلسطين، وتخيل كم سيكون مدهشاً أن تقيم عدة أمسيات مشتركة مع محمود درويش وسميح القاسم، في غزة والقدس ورام الله ونابلس والخليل، هذه المدن التي تعشقها دون أن تراها.

أجفل من الفكرة، بدت كما لو أنها صاعقة هبطت عليه، لم ينتظر دقائق يفكر فيها بما سمع، قال بصعيديته الهادئة، لا مش للدرجة دي، بعد التحرير إن شاء الله.
- ولكن يا خال انت لن تزور اسرائيل ولن تقوم بالترويج لأوسلو، ستحل ضيفاً على أحبائك الفلسطينيين، تأكل "مسخنهم" و"منسفهم" و"ورق عنبهم" وتشرب مائهم وعصير برتقالهم، وتنام على أسرتهم وتنشد أشعارك العبقرية لهم ولا لأحد سواهم.
ومثلما وعدت الحلبيين في التفكير واختيار الوقت المناسب لزيارتهم، فأرجوك يا خال أن تفكر في الأمر، وسأجند محمود درويش للضغط عليك وإغرائك حتى بالتمتع بخبز أمه وقهوتها.
اطلق الابنودي ضحكة تنطوي على دهاء صعيدي واكتفى بالقول..
- مع محمود متتعبش نفسك، هو هيقلي ما تجيش.

بعد شهور من هذا الحوار، الذي بدا للشاعر العربي الأصيل مقحماً على ثقافته ووجدانه ووعيه، مات محمود درويش، ورثاه الأبنودي، ولو اختلفت المقادير، وظل درويش على قيد الحياة حتى أيامنا هذه، لكان رثاءه للأبنودي بلغ ذروة الصدق والسمو والإبداع، فقد كان يحبه كثيراً..

وأنا أكتب هذه السطور، جاءني خبر رحيل محمد الفيتوري، فاستعرضت على شاشة ذاكرتي شعراء عرفتهم، أبو علي البياتي، ومعين بسيسو، وفدوى طوقان وأحمد فؤاد نجم، ويستعصي علي أن لا أذكر الشيخ إمام، مع أنه ليس شاعراً، وسميح القاسم، وهذه الكوكبة بعض من قافلة الغائبين التي خذلتني الذاكرة في تذكرهم.

لقد خلا فضاء الشعر اللامتناهي من أهم أقماره وشموسه ونجومه، وفي حال كهذه الحال أستذكر ما قال محمود درويش في إحدى المقابلات التلفزيونية، حين سُئل عن السقف الابداعي الذي حدده ويجعل من الصعب على الشعراء تخطيه.. قال.
مات المتنبي وشوقي والجواهري، ولم ينته الشعر، وفي مجال الشعر لا يصح الكلام عن أسقف. بل فضاء.