الإثنين 1 يونيو 2015 / 22:38

جحيم العقيدة




تغص كتب العقيدة بشتى أنواع العبارات التي تستطيع أحدها إشعال حروب أهلية لا متناهية إلى يوم قيام الساعة ، ليس الخوف من تلك النصوص المتسامحة التي نهلت منها مناهجنا الرسمية والتي خطت بحبر الواقعية السياسية وقرطاس الوعي التاريخي، لكن الخوف من تلك النصوص الجياشة النياحة التي تريد منك أن تتحول إلى قناص بدع في أحد أدغال الطائفية.

وقع تحت يدي ذات مرة - وأنا في مكة - كتاب اسمه "بطلان عقائد الشيعة" يقول من قدم الكتاب إن عامة أهل السنة لا علم لهم بهذا الخلاف الشديد بين السنة والشيعة، بل وحتى أكثر عوام الشيعة لا علم لهم بهذه العقائد الفاسدة لأن علماءهم لا ينشرون كتبهم الأساسية بين عامة الناس! ثم افتح الفهرس -بعد الصلاة على النبي- وتحدث عن التعايش الديني حتى يخرج الصباح وتصوم شهرزاد عن الكلام المباح:

عقيدة الشرك بالله مثل اليهود والنصارى
عقيدة تحريف القرآن
عقيدة إهانة الرسول ص
عقيدة إهانة علي والحسن والحسين والسيدة فاطمة
عقيدة إهانة أمهات المؤمنين
عقيدة إهانة بنات النبي
عقيدة إهانة أئمة أهل البيت
عقيدة التقية
عقيدة المتعة
عقيدة جواز استعارة الفرج
عقيدة جواز اللواطة بالنساء
عقيدة الطينة !

كيف لنا أن نتسامح مذهبياً وهذه كتب تباع وتشترى ليس للذكرى والتاريخ والزينة، بل لكي تدرس وتعلم في المساجد والدورات العلمية الشرعية ، والراحل ابن جبرين - الذي تتلمذ على يديه كثير من السلفيين - يسأل عن الشيعة هل هم مرتدين؟ فيأتي الرد في رفة عين ( إنهم لم يدخلوا الإسلام حتى يكونوا مرتدين )، هكذا بدون التقسيم الذي وضعوه للتفريق بين كفر المعين وكفر العموم، وهناك نصوص موازية للشيعة في أهل السنة لا تقل بجاحة عن مثل هذه النصوص والاتهامات.

وإذا شحذت همتك وتفرغت لطلب العلم على مذهب السلف الصالح فبإمكانك أن تشد الرحال إلى أحد هؤلاء المشايخ أو تختار شرحاً صوتياً لأحد متون العقيدة الشهيرة لترى بأم عينيك ما يشحن به بعض العلماء أفواه التلاميذ حيال الفرقة المخالفة ، والتي تتقاسم نفس تضاريس الجغرافيا والعادات والتقاليد واللغة والهموم ، فيبدأ الشريط بعواء لأحد الذئاب الضالة يعقبه كسر لزجاجة "بيبسي" لتبدأ بعدها الصواعق الحارقة بالنزول على الفرقة المخالفة ، وعندما تقدمت تكنولوجيا التسجيل والنشر لجأ هؤلاء المهرجون - من كلا الطرفين - إلى قص ولصق التسجيلات الصوتية لمشايخ الفرقة "الهالكة" وهم بذلك يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

لو أردت المصارحة فإن هذه الأقوال أثرت في نظرة بعضنا - وهم كثير - للمذهب الآخر حتى لو كان ذلك الآخر جارك الحبيب أو ابن تراب بلدك القريب ، وبمجرد إطلاقك لفظة الكفر يقودك ذلك إلى التفكير في حكم الردة ، والتي بالتالي تهديك إلى قطع الرقبة ، وبما أن الحاكم أعقل من أن يلتفت لمثل هذه الأحكام التافهة المأدلجة ضد مواطني بلده ، فإن بعض المتحمسين يقوده جماحه ليطبق أحكام الإعدام بيديه كردة فعل على جرائم مشابهة في العراق أو الشام ، فتكون النتيجة ما رأيناه في تفجيرات المساجد التي لامست أسماعنا حتى كادت تدخل بيوتنا بيتاً بيتاً.

بعد ذلك كله يتساءل البعض لماذا مجتمعنا غير متسامح ؟ ولماذا تحدث تفجيرات في مساجد المذهب الآخر وهم ينعتونها بالمعابد ؟ ولماذا لا يصلي السنة والشيعة مع بعضهم بعضا ؟ وإذا فرغوا من صلاتهم انطلقوا يبحثون في حكم الصلاة خلف المبتدع ؟ وإذا أدوا واجب العزاء لضحايا المذهب الآخر أدوه بغرض المصلحة وليس بغرض التعاطف الإنساني، ثم ينطلقون يحدثون الناس عن حكم تعزية الرافضة والناصبة وما هي العبارات التي يجب انتقاؤها عند التعزية.

وبالمناسبة، هذه البراغماتية المذهبية نابعة من عدم صدقنا في نقد تراثنا، حيث أن بعض الدعاة يقول في مجالس الطرف الآخر قولاً تسيل له دموع الحاضرين ، أما في دروسه فيقول ما تسيل به دماء المخالفين ، وهذه البراغماتية لم يسلم منها حتى ابن تيمية ، فقد نقل بعض الباحثين عن كتاب له اسمه "الرد على السبكي" قوله عن فقه الشيعة ( وغالبه موافقون لأهل السنة، وأن فيما ينقلونه عن محمد الباقر وجعفر الصادق صدقا وكذبا، والغالب عليه الصدق، وحتى الكذب منه فله استدلالات في الكتاب والسنة، ولذلك كان فقههم موافقا فقه أهل السنة غالبا ) ، وهذا النص على حلاوته وطراوته وتسامحه يثبت بلا شك براغماتية ابن تيمية في استدلاله بالنصوص التي تصب في صالحه ، فعندما ألف كتاب "منهاج السنة" ليرد به على أحد علماء الشيعة لم تكن هذه اللغة التسامحية واردة في الكتاب ، وكل ما قرأناه في نصوصه هو نقل الخلاف في كفر الرافضة وتخليدهم في النار ، لكن عندما يخالف ابن تيمية علماء السنة في عصره في مسألة فقهية فإنه يلجأ لفرقة صب عليها وابلا من التفسيق والتبديع والزندقة، فيستدل بقولها على مخالفيه ويعتد بهم في إجماع الأمة.

أتمنى أن يصبح الولاء للوطن الذي وجد الدين لإعماره وليس لإخلاله ، فالدين لله والوطن للجميع.