محمد بن زايد وضرورة مواجهة "أيديولوجية الكراهية"

خلال اللقاء الأخير الذي جمع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان, ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بالمسؤولين الإعلاميين وممثلي وسائل الإعلام العاملين في الإمارات، وضع سموه يده على عمق الأزمة التي تواجهها المنطقة العربية، في هذه المرحلة الخطيرة والحساسة، من خلال انتشار من أسماهم "دعاة ومروجي التطرف والإرهاب والعنف وأيديولوجية الكراهية"، وهو توصيف دقيق لحقيقة باتت مكشوفة للعيان، بعد العمليات الإرهابية الأخيرة التي استهدفت السعودية والكويت وتونس ومصر. ويمضي سموه أبعد في توصيفه هذا من خلال دعوته وسائل الإعلام إلى المساهمة في كشف "حقائقهم المغرضة والحاقدة على المجتمعات الآمنة وتبيان زيف الجماعات الإرهابية التي تستغل الدين في بث رسائلها وأفكارها التحريضية والمدمرة للبنية الاجتماعية والأمنية في الدول والمجتمعات العربية والإسلامية ودعواتها للفتن والفرقة بين مكونات المجتمع وتفنيد أفكارها التي تتعارض مع قيم الإسلام في السلام والتسامح والتعايش".

ولا يخلو طرح سموه هذه الأفكار وهذه التنبيهات من خطر استغلال الدين، خلال لقائه الموسع بالجسم الإماراتي الإعلامي، من دلالة. إذ يدرك سموه جيداً الدور الذي يؤديه الإعلام في مواجهة هذه الجماعات، في تعرية الإرهاب وفضحه، وفي بناء صورة الإسلام السمح الذي تم اختطافه وتشويهه؛ لأنّ مواجهة الإرهاب ليست أمنية فحسب، بقدر ما هي فكرية ينبغي أن تشمل مناحي الحياة المجتمعية كافة، وأن تتضافر القوى كلها لاقتلاع هذا التطرف من العقول، خاصة عقول بعض الشباب المغرّر بهم، وتخليص المجتمع من براثن مروجي ثقافة الكراهية وازدراء الآخر، واغتيال شخصية كل من يتصدى لهم بالتشويه والإشاعات حتى يتسنى لهم أن ينشروا أفكارهم الهدامة بيسر وسهولة.

ولعل من الضروري في هذا السياق أن نتوقف ملياً عند تعبير "الكراهية الآيدولوجية" الذي استخدمه ولي عهد أبوظبي للمرة الأولى خلال استقباله الإعلاميين بقصر البطين، مدللاً بذلك على أننا نواجه في العالم العربي إرهاباً لا يكتفي بقتل الأبرياء واغتيالهم فرادى وجماعات، بل يسعى إلى تحقيق الفوضى الكاملة من خلق الثنائيات الضدية المتصارعة في المجتمعات الخليجية والعربية، ومثل هذه المساعي لا تقف عند حدود المساجد بل تريد صناعة مجتمعات الكراهية وتغذية بذور الفتنة وزرع الخلافات الجذرية بين أبناء المجتمع وتمزيق النسيج الوطني الذي يربط بين الناس. إنها أيديولوجيا تعبر عن وعي مزيف يعدّ السيف أصل الدين والقتل غايته والموت هدفه، ويعّد التفرقة بين الناس غاية، مغفلاً قول الله سبحانه وتعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا".

إنّ تنظيم داعش، وغيره من المنظمات الإرهابية، لا يتوقف عن استدعاء فتاوى القتل والموت والاحتراب والطائفية والمذهبية والترويج لها، بل إنه يعمل دوماً على ترسيخ أيدولوجيته ونشر إرهابه، وتحويل أفكاره إلى وعي زائف مضلل، يجعل من ينقاد إلى النصوص العنيفة التي يروج لها دعاة التشدد والتطرّف عبوات ناسفة تقتل الأبرياء وتروع الآمنين وتقضي على السلم المجتمعي. وتقوم أيديولوجيا هؤلاء على تغذية راجعة من نصوص قديمة متطرفة، لا حجية لها، منزوعة من سياقها، وقد لويت أعناقها لتجعل الكراهية أيدولوجيا تغذي العقل بالفكر الإرهابي فتسوقه دونما وعي إلى التشدد والتطرّف والإرهاب.

ولا يجب أن ننسى أن تحذيرات سمو ولي العهد هذه، تأتي بعد توالي التهديدات الإرهابية التي تطال دول الخليج كافة، عبر ماكينة إعلامية، خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي التهديدات التي يتوكّأ أصحابها على فقه مهمش ومنبوذ، محاولين نقله من سياقاته المدنّسة إلى فضاءات مقدسة مخاتلة، تضلل الشباب، وتجعلهم يتبنون فقه الدم قبل حملهم الأحزمة الناسفة.

هو لقاء مفصلي إذن، ورسالة تاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالآن وقت تحمل المسؤوليات وإدراك أبعاد الخطر، وذلك بعد أن أصبح الإرهاب فكرة ينشرها عن بعد ويمررها دعاة متطرفون يستغلون الدين أبشع استغلال ويستعملون منظومات فقهية دموية، ملوحين بالمقدس ومتذرعين بفتاوى القتل والطائفية وثنائية دار الاسلام ودار الكفر الساكنة والمنبوذة في مدونات التاريخ، وانطلاقاَ من ذلك، فلقد شدد سمو ولي العهد على ضرورة مواجهة هذه المرحلة الجديدة بمهنية عالية، تتطلب بصيرة مستنيرة ورؤية نهضوية تدرك أهمية نشر ثقافة التسامح والاحترام والتعايش، وتبتعد عن كلّ ما من شأنه بث الفرقة ونشر الفتنة، وبقدر ما أن الخراب يبدأ بكلمة، كذلك مواجهة هذا الخراب، وصنع وعي قادر على المواجهة الفاعلة والسليمة، والانتقال من أيديولوجيا الكراهية إلى أيديولوجيا التنوير، يبدأ هو الآخر بكلمة، وقد أوصل سموه تلك الكلمة بكل وضوح وسلاسة وحكمة، ولم يبق على الآخرين سوى أن يحملوا الأمانة ويوصلوها بدورهم إلى المجتمع من خلال منابرهم الإعلامية.