الثلاثاء 7 يوليو 2015 / 17:50

سعدي يوسف على شاطئ داعش

 

1-
كتب الشاعرُ العراقيُّ سعدي يوسف (مواليد 1934) بمناسبة المجزرة التي نفذها الشاب التونسي الإرهابي سيف الدين الزرقي، مقالاً بعنوان "شواطئ تونس"، فحمل من التباسِ التحرير والتبرير ما جعل استقبالَ المقال في تونس وخارجها محفوفاً بالسؤال عن دلالاته، فهل هو صادر حقاً عن شاعر عربيّ عراقيّ فصيح شيوعيّ صريح ومعلَن، ولا لبس في منطق المقال سوى أنّ حبر الشاعر الشيوعيّ صار من بحر "داعش ".

2
في بداية المقال، توقّف سعدي يوسف عند فريد الأطرش، وأغنية "بساط الريح" التي جاء فيها على ذكر شواطئ تونس، ونسي سعدي أن يذكر الشاعر بيرم التونسي الذي عرف المنفى والغربة وحلم بالوحدة العربية منذ أربعينات القرن الماضي.

لقد غنّى فريد قصيدة بيرم، وكان العنوان "بساط الريح" عجائبياً مأخوذاً من تراث "ألف ليلة وليلة"، حيث أن البساط سيكون وسيلة سفرٍ لشاعرٍ حالمٍ عبر أرجاء الوطن العربي .

وفي القصيدة شيء عجبٌ يستدعي الوقوف هو أنّ بيرم التونسي (عاش في تونس ثلاثينات القرن العشرين وكانت البلادُ واقعةً تحت الاستعمار الفرنسي).

لقد وصف بيرم الغزالات اللواتي هنّ، ولا شكّ، النساءُ الأجنبيات اللواتي يستحممْن في الشواطئ العربية، عندما لم لم تكن المرأة العربية في تلك السنوات، في تونس، وفي غيرها، ترتاد شواطئ بلادها ، فلم تكن تتعرى في البحر، وكانت بعض النساء العربيات لا يقتربْن من شاطىء البحر إلا بعد الغروب، ومحروسات، ليلاً أو فجراً، ولم يعرفْن المايوهات (وهذه قضية أخرى).

هكذا، لم يكن بيرم التونسي يصف غير السائحات الأجنبيات الإيطاليات وَالفرنسيات والمالطيات خاصة، وهن اللواتي كنّ يسبحن على شواطئ "المرسى" و" حلق الواد" وشبَّهَهُنَّ بالغزالات اللواتي يسبحْن في الماء، وفي أمان، ودون خوف من الصيد والاغتصاب :

(تونس أيا خضرا/ يا حارقة الأكباد/ غزلانك في "المرسى"/ وإلاّ في "حلق الواد"/ على الشطوط تعوم / ما تخاف صيد الميّ ).

غنّى فريد الأطرش هذه الاغنية سنة 1949 في فيلم "آخر كذبة " ....

يومها كان أغلب العالم العربي مستعمَراً، ولم يكن بيرم ولا فريد يتوقّعان أنّ دماء هذه الغزلان التي كانت لا تخاف الصيد، قد جاءها طالبُ علم من القيروان وأهدر دمها، وأطلق الرصاص على خبزة نصف مليون تونسي لن يتمكن من الاعتياش هذا الصيف (2015) من مهنة اسمها: السياحة .

3-
تذكّر سعدي شواطئ تونس التي شهدت مقتل" أبو جهاد" القياديّ الفلسطيني في "فتح"، وذكر مقتل طالب العلم "سيف الدين الزرقي" بهذا الصياغة :

"أبو جهاد قُتِل (دون أنْ يذكر الموساد ) في سِيدي بوسعيد: شاطيءٌ تونسيّ .

وسيف الدين رِزقي، قُتِلَ على الرمل، في "رويال مرحبا"، بسوسةَ .

شاطيء تونسيّ"

ثم يستدرك سعدي ليمضي إلى هدف رئيس في المقال، وهو أنّ التونسيين عاشوا، في نظره، محرومين من شواطئهم، ويبني سعدي نظرية "الشواطىء المحتلة" ليصل إلى أن صديقه الأستاذ الجامعي التونسي حدّثه في الثمانينات الماضية. كيف أنه يعيش محروماً من الشواطئ التونسية، والفنادق التونسية، هذه التي تُتاح للغريب والسياح، ويُحْرَمُ منها ابن البلد .

يقول سعدي في استدراكه :

" لكن سيف الدين رِزقي قتلَ أناساً أبرياء على الشاطيء ".

4-
سعدي يوسف يعتني بالتفاصيل ، فالقاتل :

"لم يقتلْ تونسيّاً، بالرغم من أن خدم الأوتيل التوانسة اصطفّوا حاجزاً بشريّاً ، لدرء المجزرة"

ومن هنا يستنتج سعدي أن القاتل واعٍ. و يقتل أهل البلد بل "أناساً أبرياء على الشاطئّ" نعم، فبطل سعدي لم يهدر دماً تونسياً، ولكن أطلق النارَ على تجارة السياحة والحرفاء الأوروبيين، ولكن الخدم التوانسة كانوا يحاولون تفادي الجريمة التي تستهدف الموسم السياحي وتحرسه من الذبح.

5-
في المقال يربط سعدي يوسف بين:

ا- القاتل التونسي التكفيريّ الذي سمّاه تسمية لا تخلو من التعاطف والحنان حين نعته بـ "طالب العلم القيرواني" الذي فتك بالسياح "المحتلين" من جهة.

ب - وبين البطلة اللبنانية المعروفة الاستشهادية "سناء المحيدلي" ، فتاةِ قرية عنقون (قضاء صيدا) التي نفذت عام 1985 عملية استشهادية ضد العدوّ الصهيوني، فقد اقتحمت هذه الشابة بنت السابعة عشر بسيارة مفخخة تجمعاً لآليات جيش الاحتلال الإسرائيلي على معبر باتر–جزين، مفجرة نفسها وسط التجمع الذي كان ينظم المرحلة الثانية من الانسحاب من القطاع الشرقي لجنوب لبنان.

فأين أوجه الشبه في دماغ سعدي المفكّر، وهو يكتب كلاماً من هذا المنطلق:

"أقولُ: أكان طالبُ العِلم، سيف الدين رِزقي، يطأ للمرة الأولى في حياته، شاطئاً تونسيّاً؟

ألا شيْ يجمع بينه وبين سناء محيدلي وهي تطأ للمرة الأولى شاطئاً فلسطينيّاً؟

شاطئاً محتلاًّ ..."

ويستبدّ السؤال هنا:

هل تونس بلد محتلّ من الأجانب السياح مثل احتلال فلسطين من قبل الكيان الصهيوني؟

هل السواح الأوروبيون لتونس مثل المحتلين الصهاينة ؟

فأين أوجه الشبه بين سناء محيدلي التي التفَّ حولها الوطن العربي وشهد لها الأعداء قبل الأصدقاء بالبطولة، وبين سيف الدين الرزقي الذي أدان جريمتَهُ العالم؟
6-

السوال هو :

كيف اشتغل عقلُ سعدي، وهو ينسجُ نظرية الشواطئ التونسية المحتلة التي لم يطأها هذا الطالب القيروانيّ الذي يعرف الشاطئ ويسرح ويمرح فيه مثل مهندس عازم على تنفيذ ما في رأسه، فهو لم يكن محروماً من الشاطء الأبيض المتوسط، بل كان به ظمأ قاتل إلى الدم الأوروبي الأحمر "الغازي".

ولم يخلُ مقالُ سعدي من غزل خفيٍّ في هذا القاتل الذي ألحّ على نعته بـ"طالب العلم القيرواني"، وجاء ذكر عقبة بن نافع، وكاد أن يذكر "كتيبة عقبة بن نافع التكفيرية".

كتب سعدي متغزلاً في سيف الدين الرزقي (المحيدلي) المناضل ضد الاحتلال، طبعاً (الإمبريالية)

"قيلَ إن الفتى كان يضحك وهو يختار قتلاه .

(القَتول الضحاك) في وصف محمد بن عبد الله .

لم يقتل تونسيّاً بالرغم من أن خدم الأوتيل التوانسة اصطفّوا حاجزاً بشريّاً، لدرء المجزرة".

7-
كيف لوَعْيِ سعدي يوسف الذي يعرف تونس وشواطئها معرفة تتجاوز، من المفروض، إقامةَ سائح عابر، قضى فيها خمس سنوات ..

.لم يجلس جيلي الشعري إلى سعدي، خلال هذه السنوات الخمس إلا نادراً،

ولهذا، لم يذكر سعدي يوسف في مقاله هذا اسم شاعر واحد، بل ذكر اسم الأمين العام للحزب الشيوعي التونسي، وقبل أن يختار منفاه بلندن، صار سعدي يقيس البلاد العربية بمقياسه الخاص، ولم يعد في وسعه أن يدرك حجم كلامه، ولم يفهم شيئاً من البلاد التونسية التي تمتد سواحلها على 1300 كيلومتراً، فلم يعرف عن القاتل أكثر مما ورد في سيرته الذاتية الفقيرة من كونه طالب علم وهي الصفة التي ألحّ عليها سعدي، وكأنّ قتله كان قتلاً للعلم والمعرفة،

بل إننا لا نجد في النص استنكاراً من سعدي للحادثة، قدر ما رأيناه يبشر بالخراب وبنبرة تهليلية متشفّية لا يمكن أن تُخْفِيَها الجملةُ الأخيرة في مقاله السامّ:

"من المؤلم أن تتمّ الإشارة إلى الواقع المرير، بوقائعَ أشدّ مرارةً ."

8-
ويبلغ التشفّي في تونس مداه، حيث يلحُّ سعدي على فكرة احتلال الشواطئ التونسية، فيكاد يدعو إلى تحريرها من احتلال الحرفاء، ولا سبيل إلى التحرير بغير أن يلزم الإنجليز بيوتهم ويتركوا تونس، فلا يجعلونها وجهتهم في الراحة، ويتركونها بلا سياحة، وشواطئها بلا "احتلال"!

كتب سعدي :
"في (...) " الغارديان كتب أحدهم مخاطباً ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني :

كفى كلاماً ...

لنتركْ تونس للتونسيّين !"

9-
ولسائل أن يسأل سعدي:
هل القاتل طالب علم ؟ وهل كان ينهلُ المعرفة من دماء السياح الأجانب الأوروبيين، الذين لهم بشرة شقراء، وهم إذن :

ا- محتلّون وَمغتصبون لثروات الوطن، في نظر الشيوعيين بمقياس استقلال الوطن وحرمته السيادية، ولذا فإنّ طردهم واجب من جهة النضال الوطني بهدف التحرير وتقرير المصير؟

ب- سيّاح وكفّار، ونجسون، ومعتدون على الأخلاق الحميدة، في نظر السلفيين التكفيريين،

ووفق هذا المنطق كان طالب العلم يقتل ويشرب من دم الضحايا ليفوز بالشهادة، ويعتبر قتل المشركين، في الشهر الحرام، عملا يُثابُ على فعله ويُعاقَبُ على تركه، وأن له شهادة جامعية لا يمكن توقيعها إلا بالدم .

10-
وهكذا لا بد للمرء أن يتساءل :

هل الإخوان الماركسيون يتفقون، في نهاية المطاف مع الإخوان المسلمين، وهل هم يساراً أو يميناً على ملّةٍ واحدة في فهم النضال باعتباره عقيدة .

لقد كان سعدي يوسف غامض الموقف وهو يصف شواطئ تونس التي باتت غائمة في ذاكرة أرهقها منفاه البريطاني، وأن "المنفى لَمهنة قاسية" كم يقول ناظم حكمت،

ولربّما طالت المدة على سعدي، فلم يتيسر له فهم شواطئ تونس، وارتحل نصّه النثري، وقد التبست عليه الأحاسيس فصبَّ موج غضبته في شاطىء داعش.