الإثنين 20 يوليو 2015 / 15:55

شكراً خليفة على قانون مكافحة التمييز والكراهية

ليس في تاريخ الإمارات مظاهر لثقافة الكراهية، كما لم يعرف تاريخها أي خطابات طائفية أو عنصرية أو إثنية يمكن لها أن تشكل في مجموعها ظاهرة تستحق التوقف عندها كي نستخلص منها الدروس، ما خلا بعض الحوادث العابرة التي قد تندرج في إطار مجتمعي عام لا يشكل القاعدة بل الاستثناء.

ولعل ذلك يعود إلى أن مجتمع الإمارات كان على وعي كبير بأن من الحكمة عدم التركيز على المظاهر الثقافية والاجتماعية القائمة على بعض التحيزات العرقية واللونية والذكورية، حتى لا تتعقّد وتصل إلى الحد الذي قد يتحول معه العيب البسيط إلى داء عضال أو مرض مستفحل، فوجدت البادرات التي تهدف إلى توعية المجتمع بخطورة التحيّزات الثقافية، وهي إن بدت بسيطة في تسعينيات القرن المنصرم، فإنّ أوائل القرن الواحد والعشرين، وبعد أحداث 11 سبتمبر تحديداً، قادت إلى مراجعات شاملة في المنظومة الثقافية وعلى رأسها التعليم والثقافة والشؤون الدينية.

وقد استطاعت لجان المراجعة للمناهج المدرسية أن تنقي عناصر المنهاج المدرسي من التحيزات الثقافية، ونجحت تلك اللجان في تلافي الفهم المتطرف المشوه للإسلام، وتعديل الصور السلبية المنمّطة للمرأة، وتشييد مفاهيم الإسلام السمح، وتعزيز صور أكثر حيوية للمرأة تناسب مكانتها التي يدعمها التراث الحضاري لدولة الإمارات، ومازال هذا التطوير مستمراً، لأنّ لغة العصر لا تخضع للثبات والتحجر بل للتطور المستمر. ولأنّ صيرورة المجتمعات تتطلب مثل هذه التحولات المعرفية البناءة، فالتغير هو الثابت الوحيد في مجرى الحياة.

أما الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، فقد امتلكت الشجاعة المعرفية لتشييد نموذج جديد منبثق من حنيفية الإسلام السمحة لنبذ ثقافة الكراهية، يرفدها في ذلك الوعي المتجذر بأن الفقهاء المسلمين هم قناديل التنوير الأولى التي تصدت بكل حزم لأشكال التطرف والتحجر والكراهية، مؤمنة بأن الفقه الإسلامي قادر على مواكبة التغيرات المعاصرة وقراءة مستجدات الحياة بروح الحكمة، فزحزحت نموذج الإفتاء الأحادي النظرة، المعصوم والخاضع للأهواء والتحزب، ليحلّ محله مركز للإفتاء ينطلق من التيسير والتسامح لا التعسير والتشدد، مكرساً الفتاوى التي لا تتكيء على ضخامة الأسماء والرموز المصطنعة لنشر روح التعايش، واحترام النفس البشرية ومواجهة فتاوى الكراهية والعمل على خلق نموذج إسلامي معاصر سمح يرفض الحاكمية الحزبية والتكفير والحديث عن جاهلية المجتمعات وردتها. فكان من الطبيعي أن تعمل الأوقاف على وضع حد لكافة خطابات الكراهية في المساجد، وإعداد خطة للخطبة الموحدة لتمكين ثقافة الحياة والتسامح والوقوف في وجه ثقافة الكراهية المتسترة بجلابيب الإسلام السياسي.

لكن المواضعات السياسية والدينية والاجتماعية المعاصرة بدأت بالتغير، وازداد الاهتمام بالخطابات الثقافية وما تنطوي عليه من أبعاد وصار تحليلها حقلاً معرفياً بينياً تتوزعه حقول معرفية شتى وتدرس ما ينطوي عليه من حمولات ثقافية وقانونية. ولم تعد المبادرات الثقافية والتعليمية والاجتماعية والدينية وحدها مجدية لأنها تعتمد على يقظة الضمير الفردي في مجتمع بدأت المرجعيات فيه تتعدد، فصار وجود قانون لنبذ الكراهية ومكافحة التمييز أمراً ملحاً، بعد أن بات الأمن والسلم المجتمعي مهددين من جماعات إرهابية تسعى بحقد وإصرار لزرع الفتن وتخريب الحياة وقتل الآمنين وترويعهم، ولاسيما في ظل تطور مواقع التواصل والقفزة النوعية في الاتصالات، وهو ما حول الخطاب من كونها ظاهرة سلبية قد لا تؤدي بالضرورة إلى الجرائم إلى خطابات منظمة ومنبثقة تحفز على نحو سافر إلى أعمال العنف وجرائم الكراهية.

ويمكن أن تتخذ جريمة الريم أحد أهم الأمثلة في تاريخ دولة الإمارات التي قادت إلى ضرورة التشريع لنبذ أيدولوجيا التمييز والكراهية، لما يمكن أن تحدثه من ضرر بالغ على الصعيد المجتمعي، هذا الضرر الذي يظهر في تبني امرأة منقبة أفكار المتطرفين والعمل، عن طريق الشبكة العنكبوتية، بايحاء من ضلالات ثقافة الكراهية والقتل والإرهاب على تصنيع المتفجرات، لكنها ما كانت تفعل ذلك لولا تشبعها بخطابات الكراهية للآخر وإيمانها بتلك الصور الشائهة التي ينشرونها عن الإسلام.

وإذا كان بعضهم ينتقد قوانين مكافحة خطاب الكراهية لأنها برأيهم تحدّ من حرية الخطاب، فان المدافعين عن هذه القوانين يرون أنّ هذا العصر لم يعد يحتمل إطلاق الكلام على عواهنه، وجعل الخطابات تنفلت من عقالها، فهذه القوانين ترفض منطق القوة وتسعى لإبراز قوة المنطق.

ولعلنا نستذكر المحاولات الجليلة التي قام بها بعض رجال الدين والسياسيين والإعلاميين والممثلين والمفكرين والرسامين في كثير من الدول، لتفكيك خطابات الكراهية وإدانتها وفضحها، إلا أن كل هؤلاء ونظراً لغياب قوانين تمنع الكراهية، فقد وصلوا إلى حالة من اليأس بعد حملات تشهير ظالمة ومنظمة، وجرى ابتزازهم لتمرير ثقافة الكراهية في المجتمعات، والعمل على خلق الثنائيات وازدراء الآخر المختلف.

إنّ التحديات التي تمر بها المنطقة العربية، والإمارات جزء لا يتجزأ منها، من شأنها أن تجعلنا أكثر تفهماً للمعطيات التي أدت إلى ظهور قانون مكافحة التمييز والكراهية الإماراتي، التي تتجلى في استغلال الدين الحنيف والقوانين الدولية أبشع استغلال لتضليل المواطنين والمقيمين على أرض الإمارات، عن طريق نشر ثقافة العنف والاحتراب والذبح بمسوغات دينية يقوم بها تنظيم داعش الإرهابي والإخوان المسلمين وفصائل الاسلام السياسي وغيرها من المنظمات الإرهابية بقصد ضرب اللحمة الوطنية والمجتمعية وتخريب عري الوحدة مستغلة الذرائع الدينية والعرقية والحقوقية.

ويأتي هذا القانون أيضاً ليعبر عن موقف الإمارات الرائد والحكيم والشجاع بعدما اعتمد مجلس الوزراء قائمة تضم عدداً من التنظيمات الإرهابية، مما يعني بأن هذه التنظيمات مجرّمة ولا يمكن لها أن تمرر مخططاتها إلى الداخل الإماراتي. لهذا علينا أن نعي أنها ستسعى إلى تغيير مسمياتها والتقنع بمسميات جديدة وأقنعة مختلفة ومخاتلة تجعلها قادرة على إثارة الفتن الطائفية والدينية معتمدة في كل ذلك على الأبعاد القبلية والمذهبية والعرقية واللونية، فتضلل الأفراد وتقودهم إلى تبني الخطابات الزائفة دون وعي بمضامينها الخطيرة، فتعمل على إعادة نشرها وتداولها من جديد مما يؤدي إلى العنف والإرهاب.

والأهم أن قانون مكافحة التمييز والكراهية الإماراتي يدرك أن خطاب الكراهية أصبح صناعة معقدة، لها أسسها ولغتها وأساليبها، وقد قادت إلى انتفاع الكثيرين، وجني الأرباح. لهذا فإنّ القضاء عليها ليس سهلاً، والتوعية بمخاطرها قد تنفع لكنه لن تحل مشكلة فادحة متجذرة في تاريخنا، وفي ظل هذا الواقع فإن الحل الأمثل هو وجود قانون يرسّخ ثقافة الاحترام والتسامح والمحبة.

إن التحديات المقبلة تكمن في تلك الآيديولوجيات التي تقتات على الكراهية وتعيش كالطفيليات في مستنقعاتها، لكن هذه الآيديولوجيات متمرسة، إذ الكراهية لديها صناعة، وليست أي صناعة، بل صناعة تكنولوجية ثقيلة، تظهر غير ما تبطن وتبطن غير ما تظهر، وهي ستعمل جاهدة مثلما تفعل دوماً باتخاذ التسامح شعاراً والمحبة أساساً ظاهراً لكنها في خطابها المبطن تحرض على الكراهية والفتنة مستغلة هذا التداخل بين ما هو مقدس وما هو مدنس وبين الأصول والفروع وبين المعصوم وغير المعصوم، متذرعة بامتلاكها الحقيقة المطلقة.

إنّ خطاب الكراهية يتسم بلغته التي تتعالى على العقل والتاريخ والحقائق العلمية مما يخوله أن يعمل بشكل مستمر على تشويه الآخر المختلف بألفاظ نابية تمتلك القدرة أحياناً على استقطاب طائفة ما وجعلها مصدراً للخير كله وإقصاء وتشويه طائفة أخرى وجعلها مصدراً للشر المطلق، فتصبح الموضوعية في مهب الريح، وتتعطل الرؤية الوسطية للأمور.
وإذا لم يتمكن العقلاء من الانتصار على خطاب الكراهية فإن القانون هو العاقل الذي لا يمكن لأحد هزيمته، حتى وإن ارتبطت الكراهية بمغذيات تراثية، وكانت شديدة التأثير على الذين لم يتدربوا على إعمال الفكر النقدي بعد في تلقي النصوص وأشكال الخطابات التراثية والمعاصرة الأخرى.

وأحب أن اختم هذا الحديث بما ورد في الكثير من المصادر الإسلامية أن أبا ذر وبلالاً الحبشي رضي الله عنهما تغاضبا وتسابا، وفي ثورة الغضب قال أبو ذر لبلال: يا ابن السوداء! فشكاه بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: "أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية".

فشكراً لرئيس دولتنا وقائدها وحامي مسيرتها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، لأنه بإصداره هذا القانون، يساهم في تعزيز ودفع مسيرة الإمارات الحضارية التي تنهل من الإسلام الوسطي السمح، وتنبذ كافة أشكال التطرف والجاهلية.