الخميس 23 يوليو 2015 / 19:12

تعظيم سلام للشعب الذى أنجب ثوار يوليو 1952


 
ستظل ثورة 23 يوليو 1952، التى جرى الاحتفال بعيدها الثالث والستين فى هذا الأسبوع، واحدة من أهم الظواهر السياسية وأكثرها تأثيراً فى تاريخ العالم، خلال النصف الثانى من القرن العشرين، ليس فقط لأنها غيرت مسار التاريخ المصري، لكن كذلك لأن تأثيراتها الإيجابية تجاوزت مصر إلى العالم العربي والإسلامي، وإلى ما كان يعرف - آنذاك - بالعالم الثالث لتشمل ثلاث قارات، هى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وحققت نقلة كيفية فى التاريخ الإنساني كله.

وليس الأمر فى حاجة إلى إحصاءات أو دراسات للتدليل على صحة ذلك، فالذين عاصروا فى طفولتهم نمط الحياة فى مصر قبل هذه الثورة، سوف يلاحظون أن مهناً كثيرة، قد اختفت تدريجياً منذ ذلك الحين، من بينها مهنة كانت تسمى "لمّامي السبارس"، وهم فريق من المصريين كانوا يطوفون بالمقاهى والشوارع، لكى يجمعوا أعقاب السجائر من تحت أقدام المدخنين، ليبيعوها إلى تجار متخصصين فى تجميع ما تبقى فيها من دخان، يقومون بغسله ثم تجفيفه ليحولوه إلى دخان سائب يعبئونه فى علب من الورق الرديء ويبيعونه إلى فقراء المدخنين، الذين يقومون بلفه في الورق الخفيف المعروف بورق البفرة، ويستمتعون بتدخينه.. ومن بين هذه المهن التى اختفت أو كادت مهنة مساحي الأحذية، الذين يطوفون بالشوارع والمقاهى والأماكن العامة يمسحون أحذية روادهم.

وسوف يلاحظ هؤلاء وغيرهم أنه لا يكاد يوجد فى مصر الآن مواطن حافي القدمين، بينما كان الحفاء إحدى مشكلات مصر المعقدة قبل ثورة يوليو، حتى أن السيدة زينب الوكيل - قرينة الزعيم مصطفى النحاس - تزعمت فى الأربعينات أسبوعاً باسم "أسبوع البر" لجمع التبرعات تستهدف إنشاء مصانع لتصنيع أحذية أو نعال توزع على الحفاة.. وسوف يتنبهون إلى أن الدكاكين التى كانت تتخصص فى توريد خدم المنازل، قد اختفت من شوارع العاصمة والمدن الكبرى، وأن ربات البيوت - خاصة اللاتى يعملن منهن - يعانين صعوبة فى الحصول على من يعاونهن فى أعمال المنزل، بعد أن اتسعت مجالات العمل أمام النساء.

وحتى رحيله، قبل ما يقرب من نصف قرن، كان زعيم الثورة "جمال عبد الناصر" يكرر القول بأنه لا يزال يحلم بأن يعيش إلى أن يأتى اليوم الذى تختفى فيه ظاهرة عمال التراحيل، وهم العمال الزراعيون الموسميون، الذين كانوا يغادرون قراهم للعمل فى التفاتيش الزراعية ينقون القطن من الدود، أو يشقون المصارف أو يجمعون المحصول، مقابل أجور زهيدة لا تتعدى عدّة قروش فى اليوم الواحد، لا تكفل لهم إلا غذاء تافهاً، لا يكاد يقيم الأَوَد، يتكوّن من رغيف من الخبز وفحل بصل وبعض المخللات.. وهو الحلم الذى تحقق بعد وفاته، بعد أن تمت تصفية الإقطاع بقوانين الإصلاح الزراعي، لتصبح المشكلة الآن هى ندرة العمال الزراعيين، وارتفاع أجر الواحد منهم من خمسة قروش إلى خمسين جنيهاً فى اليوم.

قبل ثورة 1952، كان عدد الدول العربية المستقلة استقلالاً تاماً أو ذاتياً، التى تشكلت منها الجامعة العربية عام 1945، لا يزيد على سبع دول، هى مصر والسعودية واليمن وسوريا ولبنان والعراق والأردن، وكان ما تبقى من هذه الدول مستعمرات أو شبه مستعمرات تعانى احتلالاً تقليدياً وتخضع للحماية أو الانتداب، أما بعد وبمعونة من حكومة الثورة وأجهزتها العميقة، فقد حصلت جميعها على استقلالها وقاومت شعوبها ببسالة أى مشروع للدخول فى أحلاف أجنبية، وحصلت جميع الدول الإفريقية والآسيوية ودول أمريكا اللاتينية على استقلالها.. وانتهت ظاهرة الكولونيالية التى سادت العالم منذ النصف الثانى من القرن الثامن عشر، إلى النصف الثانى من القرن العشرين!

وليس معنى هذا أن ما حققته ثورة 23 يوليو، كان آخر المطاف أو منتهى أحلام الجيل الذى فجرها وساندها، إذ لا نهاية لأحلام الشعوب بحياة أوفر سعادة وأوسع ديمقراطية وأكثر عدلاً، وليس معناه أن قيادة هذه الثورة، لم تخطئ أو أنها لم تتعرض لهزائم وانكسارات وتراجعات، لأسباب كثيرة يعود معظمها إلى البيئة السياسية الدولية التى كانت تحيط بها، وإلى المؤامرات الخارجية والداخلية التى لم تكف عن محاولة حصارها، ويعود بعضها الآخر إلى نقص فى خبرة قيادتها، ربما كان من أهمها أنها عجزت عن المواءمة بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية، وأنها عجزت - أو عزفت - عن تنظيم الجماهير الغفيرة التى كانت تؤيدها وتتحمس لها وتساند خطواتها وتمنحها ثقتها بلا حدود، على نحو يمكن هذه الجماهير من المحافظة على ما حققته الثورة، ومن السعى لتطويره ومن التصدى بفاعلية لمحاولة شطبها من التاريخ.

ومشكلة أعداء ثورة يوليو والشائنين عليها والمشهرين بها، أنهم يتوهمون أنه باستطاعتهم أن يشطبوا هذه الثورة من التاريخ، وأن يعيدوا عجلته إلى الوراء لمجرد أنهم نجحوا فى خصخصة القطاع العام، وفى استرداد ما أممته الدولة من ممتلكات آبائهم وأجدادهم، باستغلال تحالف الفساد الذى جمع بين السلطة والثروة، فى حكومات ما بعد رحيل عبد الناصر، ولو أنهم تذكروا درس التاريخ، لاكتشفوا أن الإنجازات الحقيقية لأى ثورة، لا تكمن فيما أنشأته من مصانع أو ما رصفته من طرق أو أقامته من مشروعات عظمى، يمكن أن يتآكل بعضها أو تتدمر كلها مع الزمن، ولكنها تكمن أساساً فيما أرسته من قيم سياسية فى وجدان الشعوب، ولو أنهم استطاعوا فهم هذا التاريخ لأدركوا أن ثورة يوليو قد أرست خمس قيم أساسية، أصبحت تشكل الوجدان الوطنى للشعب المصرى وللشعوب العربية، لا لم يعد فى استطاعة أحد ممن يحكمونها أن يفرط فيها إلى حد الخروج السافر عنها، وإلا فقد ثقة هذا الشعب. الأولى هى استقلال القرار الوطني ورفض كل شكل من أشكال التبعية، والثانية أن مصر هي دار المصريين جميعاً مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم وألوانهم وأنواعهم، والثالثة أن الشعب المصري جزء من الأمة العربية وأمنها القومي يرتبط بالأمن القومى العربي، والرابعة هى تحطيم الهرم الطبقى المغلق بحيث يستطيع المواطن بعمله وجهده ومواهبه وخبرته أن يرتفع من سفح هذا الهرم إلى قمته.. والخامسة هي التزام الدولة بضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية يكفل للطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل الحد الأدنى من الحياة الكريمة!

وهى قيم لن يستطيع أحد أن يجبر الشعب المصرى على التخلى عنها مهما كان وأياً كان!

وتعظيم سلام للوطن الذى أنجب ثوار يوليو.. وللشعب الذى احتشد حولها، وحفر اسمه إلى الأبد في سجل التاريخ.