الأحد 2 أغسطس 2015 / 19:11

هالةُ الأموات … تُجرّم نقدَ ما فات


للموت هالة تمنح الميتَ قداسة، ليست فيه. من ملكات الإنسان الحسنة توقير الميت ونسيان عيوبه ومثالبه، أو ربما تناسيها. ومن أدبيات ديننا الجميلة حديث النبي: "اذكروا محاسنَ موتاكم، وكفّوا عن مساوئهم". وهي خصلة طيبة، لأن ذلك الراحل الذي قضى نحبه، لم يعد هناك ليدفع أذى القول عن نفسه، فأمّنتْ له الإنسانيةُ ان يرقد في سلام ويتوفر بكامل طاقته للعالم الآخر، دون الحاجة للذود عن اسمه السابق في الدنيا التي برحها إلى غير رجعة. لهذا، ربما هي غريزة مغروسة في عمق الإنسان، ننسى بالتدريج إساءة من رحل من الراحلين، حتى لا نعود نتذكر له إلا الطيب من الفعل والقول والذكريات الطيبة. وإلى هذا الحد، يعدُّ الأمرُ إنسانيًّا وصحيًّا ومقبولا ومطلوبًا. لكن الأمر قد يتجاوز حدَّه لدى بعض الناس، فيتحول هذا الميت أو ذاك إلى قديس لا يأتيه الباطلُ من بين يديه أو من خلفها! فتغدو كلماته العابراتُ أقوالا مأثورة تشارف القداسة، وتدخل أفعاله غير المحسوبة في باب الطقوس الدينية والسنن واجبة المحاكاة.

انتبه فرنسيس بيكون، المفكر الإنجليزي التنويري ابن القرن السادس عشر، إلى تلك الآفة البشرية في تقديس الأولين، دون مجرد المقدرة على تحليل أقوالهم وغربلتها وتمييز الصالح منها والطالح، والمتأمل منها والعفوي، والعلمي منها والجهول. وأسمى تلك الآفة بـ" صنم المسرح"، ضمن الأصنام الأربعة التي تعوقنا عن معرفة الحقيقة. واستشهد بتجربة عملية علمية أجراها مجايله الإيطاليّ العالم الفلكي الفيزيائي جاليليو جاليلي. أثبت جاليليو، على رؤوس الأشهاد من علماء رياضيات وفيزياء، وأمام حشود العامة من الناس، في تجربة عملية واقعية، أننا لو ألقينا حجرين من علٍ، يزن أحدهما رطلا، والآخر يزن عشرة أرطال، أن الحجرين سوف يصلان الأرض في لحظة واحدة. وشاهد الناسُ ذلك بأمهات عيونهم، لكنهم كذّبوا عيونَهم ولم يصدقوا ما رأوا ورفضوا التسليم بنظرية جاليليو! لماذا؟ لأن أرسطو الفيلسوف الإغريقي الشهير، الذي مات قبل تلك اللحظة بعشرين قرنًا، له رأي آخر يذهب إلى أن الحجر الأثقل وزنًا، يصل الأرض أسرع! أرسطو "قال" ولم يثبت نظريته بتجربة عملية. وجاليليو "أثبت" بالتجربة العملية نظريته. لكن جموع الناس صدقت "الميت" الذي "قال"، ولم تصدق "الحي" الذي أثبت! لماذا؟ إنها "هالة الموت" التي تجعل من الأموات قديسين وأنبياء لا يخطئون. وحدث الشيءُ نفسه حين أثبت جاليليو بالمعادلات الرياضية أن الأرض تدور حول الشمس، فحكمت الكنيسةُ عليه بالموت لأن في هذا مخالفة لقول الأولين وما فهمو من الكتب المقدسة من أن الأرض هي مركز الكون، تدور الشمسُ حولها. ما اضطر جاليليو، إنقاذًا لحياته، إلى العدول عن قوله والتصديق على ما قاله الكهان من جهالة. وأكاد أسمعه يهمس لنفسه وهو واقف في المحكمة ليُدلي بما يخالف معتقده من علم: “أولئك الناس يليق بهم الجهل، فدعهم في غبائهم، وسوف يُنصفني التاريخ.” وأنصفه التاريخُ بالفعل. متى؟ حين خرجت أوروبا من غفلتها التغيبية وأفاقت على نور العلم وإشراقة العقل.

يحدث الشيء نفسه الآن في مجتمعاتنا العربية. تقديس الموتى ووضع هالة زائفة على رأس كل قديم دون تدبّر ولا تفكير. على أننا، على نقيض أوروبا، متمسكون بظلام التغييب، حريصون عليه، حرص البخيل على كنزه.

في مقاله المهم، "الفقه من المعلّم المعصوم إلى اللحم غير المسموم"، بموقع 24AE فنّد د. علي بن تميم، الباحث الإماراتي، هذه الرذيلة العربية وأسبابها. وخَلُص إلى أن مقولة ابن عساكر الدمشقي في القرن السادس الهجري هي تلك "الهالة" االزائفة التي رسمها الشيخُ فوق رؤوس شيوخ المسلمين لتحمي تاريخهم، وتحمي تاريخه هو كذلك. "لحوم العلماء مسمومة". تلك العبارة ثلاثية الكلمات إن هي إلا درعٌ حام، وسيفٌ بتّار، على نحر كل من يحاول مجرد أن "يفكر" في مقولة شيخ قديم، لتحليل صوابها من خطأها، وسمينها من غثّها. هي المقصلة الغاشمة التي تجعل الخَلَفَ يطيعُ السَّلَفَ باستسلام تام دون إعمال العقل والمنطق. وأيُّ منطق يشفعُ بعد مقولة: مَن تمنطق قد تزندق" التي تقف له بالمرصاد وتمنعه من التفكير والتأمل؟! ذلك السيف المروّع يجبرنا على الإيمان الصاغر بأن إعمال العقل في إرث أي فقيه من السلف القديم وانتقاده، يعدُّ نقدًا وجرحًا في إرث رسول الله نفسه!

أنعم اللهُ علينا بمَلكة "الشكّ" لكي نتأرجح بين النقائض، فنبدع. لا إبداع دون شكّ، ولولا شكّ العلماء ما اخترعوا لنا كل ما نستمتع به اليوم من منجزات العقل والشك. لو سلّم الإنسانُ القديم بأن الإنسان لا يطير كالطائر، ولا يغوص في البحر كسمكة، ولا يقدر على السمع عن بعد كعفريت، ما كانت الطائرة ولا كانت الغواصة وما كان الهاتف.

أذكر أن أول المبادئ التي كتبها المعلم على السبورة في كورس: "صناعة عالِم"، الذي تبنّته مدرستي في المرحلة الثانوية، كان: NEVER Take Anything for Granted. لا تأخذ أي شيء كمُسّلمات. هكذا يتكون العلماء والمفكرون والفلاسفة والنوابغ من البشر.
أسقطوا الهالةَ عن رؤوس الأموات، وأعملوا العقلَ في كل ما فات، وفكروا في كل ما تسمعون وفيما تقرأون، لأن الله هو الذي منحنا هذا العقل لنفكر، لا لنُسلّم قوادنا لغيرنا كالأنعام.