الجمعة 21 أغسطس 2015 / 22:16

الإمارات والمعبد الهندوسي.. من دغدغة المحسوس إلى رحابة المعقول

يراد من أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات، أن تقدم مسوغاتها عند أي بادرة جديدة، ثقافية كانت أم اجتماعية أم دينية. لكن أبو ظبي لا تحتاج إلى مثل ذلك فهي عاصمة دولة تصدر عن إيمان مستنير يحترم العقل، ويرفض تقديس المحسوس والانصياع للغريزة، فالدولة الواثقة بخططها التنموية ومنظورها المعرفي، لا تملك ترف الوقت لتقدم المبررات المصطنعة لكل من يلوك مزاعم خرافية وأسطورية، تريد من خلالها الاستيلاء على التراث الثقافي الإسلامي، وجعله معبرا عن وجهة نظر أحادية تختزله في مذهب أو في طائفة.

ولعل من المفيد التذكير بأن الإمارات لم تخط خطوة واحدة من قبل في سبيل رفد تنميتها معتمدة على رؤية ثقافية أو دينية قاصرة، ولم تكن في أي حال من الأحوال تنتظر رأي أعداء التنمية والحداثة، أولئك الذين لا يَرَوْن في الفعل الخلاق والمشاريع التنموية التنويرية الثقافية إلا حربا ومؤامرة على الدين.

أجل إنّ التنمية الإماراتية لا تحتاج إلى مبررات خرافية بقدر ما تحتاج إلى خطط ورؤى مستنيرة تؤمن بالافعال لا بالاقوال، والنهضة عندنا لم تنبن على حسابات مغرضة يشرع لها فقهاء مسيّسون، مدججون بالتدليس والافتراء على موروثنا وعلى الإرث الحضاري للدولة، ذلك أن المشاريع التنويرية التي تنهض بها هي الرد الحاسم على مقولاتهم والتقويض الحقيقي لها .

ومن المهم أن نشدد أكثر من أي وقت مضى أننا في دولة الإمارات لا نبحث عن مشرّعين يعتمدون الغرائز الحسية ليجعلوا من نهضتنا وما نحياه من تنمية مستدامة أمرا مشروعا ذلك لأنّ المشرعين الغرائزيين الذين قد يشكلون مرجعية موهومة في بعض بقاع الدنيا قد آثرنا في دولة الإمارات تنحيتهم وسلكنا بذلك طريقا مختلفة، وبنينا خصوصيتنا و قدمنا ردا حاسما يتجلى في الفعل لا القول وفي التنمية المستمرة وليس في الجدل العقيم والفكر المتشدد، فأعلينا قدر الشريعة السمحة المنفتحة وابتعدنا عن كل فكرة مصطنعة ومغلقة.

نعم، لقد خصصت أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة أرضا لبناء معبد هندوسي، وهذا الأمر لا يتعارض مع شروط التنمية في دولة الإمارات ولا يتناقض مع مسيرة النهضة التي أسس لها الراحل الكبير المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تلك التي تقوم على احترام الآخر أيا كان دينه ولونه وجنسيته وعرقه طالما يسهم في رفد المجتمع ويحترم شخصيته ومكوناتها الثقافية والاجتماعية والدينية وأمنها الثقافي الذي يؤكد الوحدة والتنوع والانفتاح.

وانطلاقا من ذلك فإننا في دولة الامارات العربية المتحدة، نحارب ثقافة الكراهية، وندعو إلى احترام ثقافات الآخرين، ونرفض التعصب باسم الاسلام الذي كان ينتشر شرقا وغربا دون أن يضيّق على الناس ويهدم معابدهم. إن بناء هذا المعبد على أرض الامارات دليل استنارة وتحضر، ووعي ولا ينبغي ربطه وتبريره بأمور اقتصادية وسياسية وقانونية، فهو إحياء للتقاليد الإسلامية الدينية السمحة الحقة في التراث العربي القديم الذي احتفى احتفاء كبيرا بالثقافة الهندية منذ القرن الثالث الهجري.

ولا مندوحة لكل من اراد أن يتحدث عن الهند وثقافتها من الوقوف عند كتاب العالم الجليل أبوالريحان البيروني(-440هجرية) وعنوانه:"تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولةٍ في العقل أو مرذولة" لنتبين كيف كان هذا العالم يصدر عن رؤية فكرية عميقة، ترفض التنميط ولا يغيب عنها ثقافة السؤال وهي تتحدث عن الهند بكل ما لها من حضارة وثقافة. ولعل من اللافت أن يتحدث البيروني في بدايات كتابه تحت عنوان " ذكر اعتقادهم بالله سبحانه " فيقول:

"إنّما اختلف اعتقاد الخاصّ والعامّ في كلّ أمّة بسبب أنّ طباع الخاصّة ينازع المعقول ويقصد التحقيق في الأصول، وطباع العامّة يقف عند المحسوس ويقتنع بالفروع ولا يروم التدقيق وخاصّة فيما افتنّت فيه الآراء ولم يتّفق عليه الأهواء؛ واعتقاد الهند في الله سبحانه أنه الواحد الأزلي، من غير ابتداء ولا انتهاء المختار في فعله القادر الحكيم الحيّ المحيي المدبّر المبقي الفرد في ملكوته عن الأضداد والأنداد لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء؛ ولنورد في ذلك شيئا من كتبهم لئلا تكون حكايتنا كالشيء المسموع فقط، قال السائل في كتاب «باتنجل» : من هذا المعبود الذي ينال التوفيق بعبادته؟ قال المجيب: هو المستغني بأوّليّته ووحدانيّته عن فعل لمكافاة عليه براحة تؤمّل وترتجي أو شدّة تخاف وتتّقي، والبريء عن الأفكار لتعاليه عن الأضداد المكروهة والأنداد المحبوبة، والعالم بذاته سرمدا إذ العلم الطارئ يكون لما لم يكن بمعلوم وليس الجهل بمتّجه عليه في وقت ما أو حال؛ ثمّ يقول السائل بعد ذلك: فهل له من الصفات غير ما ذكرت؟ ويقول المجيب: له العلوّ التامّ في القدر لا المكان فإنّه يجلّ عن التمكّن، وهو الخير المحض التامّ الذي يشتاقه كلّ موجود، وهو العلم الخالص...."

وقد آثرت أن انقل هذا النص الطويل عن البيروني، لأبين طبيعة المنظور الذي صدر عنه هذا المفكر المستنير، الذي لم تخفه الاحكام المسبقة، فاقتحم لجة هذا البحر، فجمع مصادره وقرأها وحاكمها. وبصرف النظر عن النتائج التي توصل اليها البيروني وغيره فيما يخص الأديان غير السماوية، فإنّ حق الناس في ممارسة عباداتهم بأمان، هو الطبيعي والمنطقي. وكلنا نتذكر، وأنا هنا لا أقارن بين الأديان مطلقا، ما واجهه المسلمون في الغرب في بناء المساجد من صعوبات ومعارك قانونية.

إنّ بناء المسجد في الغرب كان يشير إلى لحظة خروج الثقافة الغربية من الأحادية الثقافية إلى التعدد، لأن وجود مجموعة كبرى من البشر في غير مجتمعها محرومة من ممارسة شعائرها أو طقوسها، يفضي إلى أوضاع غير مستقرة. ولهذا فإنّ المسالة تتجاوز مسألة سماوية الأديان أو بشريتها، لتغدو دالة على موقف إنساني خالص تؤكده الآية الكريمة" لكم دينكم ولي دين".

لقد عرف الغرب جدالا طويلا حول بناء المساجد، ليس من زاوية دينية فحسب، بل من زوايا فن العمارة وومدى تأثير العمارة الاسلامية على العمارة الغربية بتاريخها المختلف. لكنّ بناء المساجد في الغرب أخذ يتنامى وإن ظل مسالة سجالية بطبيعة الحال.

وها هي أبوظبي، تقرر الموافقة على بناء هذا المعبد، واثقة من صواب منظورها ودقة بوصلتها، سواء تعلق الأمر بالماضي أم بالحاضر والمستقبل. فالعالم يتجه نحو التعايش والتسامح. ومن الغريب أن يتم الاعتراض على هذا الموقف المعرفي المنفتح من أبواق الفتنة، ويسود الصمت المطبق عند الحديث عمن يقطعون رؤوس البشر وينتهكون الأعراض، وهي جريمة لا ينبغي السكوت عليها.