الإثنين 31 أغسطس 2015 / 18:26

كوميديا سوداء وغراميات داعشية

نُشر كتاب "تحت جلد المجاهدة: رحلة في شبكات التجنيد الداعشية" باللغة الفرنسية في أوائل هذا العام، وخلال أشهر قليلة تُرجم إلى الإنكليزية والألمانية، وتعددت طبعاته. وكما يتضح من العنوان، فإن الكتاب يتناول ظاهرة تجنيد شبّان وشابات أوروبيات، عن طريق وسائل التواصل الاجتماعية، على الإنترنت، وتحريضهم على "الهجرة" إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الدواعش في سوريا.

ولكن ما يُميّز هذا الكتاب عن كتابات كثيرة تناولت الظاهرة بالبحث والتحليل، أن الكاتبة اخترعت لنفسها شخصية وهمية على الإنترنت، باعتبارها فرنسية في العشرين من العمر، وجدت طريقها إلى الإسلام، وأصبحت معجبة "بالجهاد" في سورية والعراق. أما في الواقع فإن الكاتبة لا تُفصح عن اسمها الحقيقي، فقد صدر الكتاب باسم آنا إيريللي، وهو اسم مُستعار لصحافية فرنسية تقول إنها في الثانية والثلاثين من العمر، تمتهن الصحافة، وتخشى على حياتها بعد علاقة "غرامية" افتراضية مع أحد الدواعش على الإنترنت، ونشر تحقيقات صحافية عن الموضوع قبل صدور الكتاب نفسه.

ومصدر الخشية أن الطرف الداعشي في العلاقة كان شخصاً يدعى أبو بلال الفرنسي، والمذكور مواطن فرنسي من أصل جزائري، يُقال إنه كان مُقرباً من خليفة الدواعش، وتضاربت الأنباء حول مقتله، بعد انتهاء العلاقة على الإنترنت بوقت قصير، وبعد اتصالات تلقتها الكاتبة، وانطوت على تهديد مُبطّن وصريح، وقيام السلطات الفرنسية باعتقال شبكة في فرنسا يتولى أعضاؤها تجنيد وتسفير المتطوعين.

المهم في الأمر أن تفاصيل العلاقة الغرامية الافتراضية تشبه في البدء، والوسط، والخاتمة رواية بوليسية، وفيها ما ينطوي على كثير من المعلومات حول تجنيد الشبّان الأوروبيين في صفوف الدواعش، وحول حقيقة أن الدواعش يغسلون أدمغة هؤلاء، يحاولون شطب ماضيهم، وتفكيك علاقاتهم الاجتماعية، ويخلقون لهم حاضراً وشخصيات وهمية جديدة لا ترى العالم إلا من خلال الدعاية الداعشية.

والمهم، أيضاً، أن في تفاصيل عملية انتقال الشبّان والشابات الأوروبيين إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الدواعش في سوريا، كما جاءت في الكتاب، ما يوحي بمرونة عالية في الحركة يمارسها الدواعش على الأراضي التركية، التي تُستخدم كمنصة أخيرة للعبور. ولعل في هذا ما يثير أسئلة حول حقيقة الدور التركي إزاء ما يجري في سوريا: هل تنجم مرونة الحركة الداعشية عن تراخي السلطات التركية في ممارسة الرقابة، أم أن "التراخي" مُتعمّد؟

ففي أحاديثه الكثيرة مع ميلودي، الشخصية الوهمية التي رسمتها الصحافية الفرنسية لنفسها على الإنترنت، يردد أبو بلال الفرنسي الكثير من الكلام حول ذهاب وإياب أفراد من جماعته إلى قرى وبلدات تركية قريبة من الحدود السورية، وارتياد المطاعم، والسهر هناك، كما يعدها في مشروع إيصالها إلى سوريا، بوجود امرأة تنتظرها في مطار اسطنبول، لترتيب المرحلة الأخيرة في عبورها إلى الأراضي السورية.

لا يتكلم أبو بلال الفرنسي بطريقة تدل على فهم للإسلام، أو حتى وجود قناعات دينية عميقة، فكل ما يتجلى في عالمه من ثقافة ومعارف لا يزيد عن ثقافة ومعارف شخص عاش على هامش المجتمع في ضواحي المدن الفرنسية، وفي أوساط عائلات مهاجرة من شمال أفريقيا، لم تنجح في أن تكون فرنسية تماماً، وتحللت صلاتها بالبلد الأصلي.

وإذا كانت القناعات الإيمانية العميقة غائبة في عالمه، فإن شهوة القتل تحضر في ذلك العالم بطريقة تثير الذعر، فهو يتكلم، دائماً، عن الأشخاص الذين قتلهم "في النهار" قبل اللقاء الغرامي بحبيبته وضحيته الافتراضية على الإنترنت، ويمارس نوعاً من التواضع الكاذب، عندما تبدي إعجابها لتحريضه على سرد مزيد من التفاصيل عن حياة وعمليات وأفكار ومشاريع الدواعش.

وعلى الرغم من كراهية أبي بلال الفرنسي لكل ما هو غير "إسلامي"، التي تعني في الواقع ما هو غير داعشي، إلا أنه يحب الثياب الأوروبية، والعطور الفرنسية، ويكرر محاولات استدراج الكاتبة للانغماس في حوارت وتفاصيل جنسية، لكنها تمانع لإقناعه بجدية "ميلودي" الشخصية الوهمية التي اخترعتها لنفسها.

الطريف في الأمر يقرر أبو بلال أن تصبح ميلودي زوجته، بعد اللقاء الثاني على الإنترنت، ويناديها بتسميات من نوع "زوجتي، طفلتي، حبيبتي" ويطلب منها أن تتخلى عن اسم ميلودي، فيختار لها اسم "أم صلاح الدين"، ويكذب عليها قائلاً إنه أعزب، ويتضح في وقت لاحق أن لديه ثلاث زوجات.

والطريف، أكثر، أن "ميلودي"، "أم صلاح الدين" عندما تلقي بحبيبها الداعشي تضع فوق الجينز، والتي شيرت، أي ثيابها في الحياة اليومية، ثوباً أسود اللون، يغطي الجسم كله، وغطاء للرأس، لتبدو مُقنعة في نظر صاحبها، الذي يثني على هذا السلوك، ولكن لا يمانع في أن يرى المزيد من جسمها، طالما أصبحت "زوجته"، وأصبح ذلك من حقه.

ثمة الكثير من التفاصيل، ويمكن القول إن الكتاب يمثل نافذة نطل منها على كوميديا سوداء، ولكنها مبللة بالكثير من الدماء، والمصائر المأساوية، ولكنه ككل مأساة صافية لا تخلو من جوانب كوميدية.